اللحظات الحاسمة في تاريخ الأمم لا يصلح لها الكلام الساكت، ولا الكلام حمّال أوجه، ولا الكلام الموارب الذي يشير إلى كل الاحتمالات، اللحظات الحاسمة هي لحظات الحقيقة حتى لو كانت مرة. مصر على مفترق الطرق. أكثر من ثلاث سنوات على 3 يوليو 2013 وأوضاع البلاد تزداد سوءًا، بل تنتقل من سيئ لأسوأ، وكلما وصلنا منحدراً وظننا أنه قد يبدأ منحنى الصعود أو تتم حلحلة بعض المشاكل، تدخل البلاد في هاوية هي أكبر من أختها التي سبقتها، وهكذا كل مصيبة تسلّم للتي بعدها. وهكذا تتوالى المشارع الوهمية التي أكلت ثروات البلاد، ومخزونها الاستراتيجي من الموارد، واحتياطها النقدي من العملة الصعبة، وهكذا سياسات الفشل، وفشل السياسات والقائمين عليها والمروجين لها، وأذرعها الإعلامية. مصر ليست في أزمة، مصر تجاوزت وضع الأزمة إلى الدخول في وضع الكارثة، أو في أحسن الأحوال على مشارفها، وفي حدود حوافها وتخومها. والأزمة ليست في بعض التفاصيل الهامشية، ولا في بعض السياسات الاقتصادية... جوهر الأزمة في البوصلة التي تحكم عمل النظام، وعن أي طبقة أو شريحة اجتماعية يعبر، وعن الفئات المحمية المصالح، وعن الشبكات والتحالفات التي تقف خلف هذه المصالح. قراءة المشهد المصري لا تحتاج إلى خبير حتى ندرك أن تلك الحقبة السوداء أوشكت على الانتهاء، مرحلة السنوات الثلاث السوداء هذه التي أودت بواقع ومستقبل الدولة، ليس على المستوى الدولي ولا الإقليمي بل حتى على المستوى المحلي. هذه هي الكارثة التي تحياها الدولة المصرية، وهي كالقنبلة الموقوتة التي لا يعلم أحد متى تنفجر، وكيف تنفجر، إنما الجزء الثابت من المشهد أنه أزفت نهاية تجربة دخلت من باب تضخيم الأخطار المحدقة بالبلاد ومنه خرجت، إنما جرّاء أخطار حقيقية غير مظنونة وغير متوهمة وغير مصنوعة على أعين الأجهزة وأذرعها: أخطار حقيقية ليست نتاج عملية دعائية ولا شغل أجهزة، ولا واقع سيئ تمت المبالغة فيه وإشعار الناس بنهاية الدولة أو تقسيم الجيش أو دخول مرحلة الحرب الأهلية. الدول لا تدار بالفهلوة ولا بأهل الثقة، إنما تدار بأهل العلم والخبرات الحقيقية، والدول تدار إدارة مدنية تستلزم حدا معينا من المحاسبية والشفافية والعلانية، ليست كل أسرار الدولة ترتبط بأمنها القومي، وليست هناك مشاريع مخفية خوفا من أهل الشر، هذه ليست لغة إدارة الدول هذه لغة المصاطب، مع احترامنا للغة المصاطب من أهلها وفي محلها. والدول المحترمة لا تقوم على المساعدات ولا الهبات والمنح التي لا ترد، فليست هناك منح غير مشروطة، فالدول لا تقدم مساعدات خيرية، الدول كيانات مصلحية حتى النخاع. والدول في جوهرها مؤسسات مدنية اجتماعية تستهدف مصلحة الناس، والعمل على تنميتها في إطار من حكم القانون والعدالة التي تحفظ حداً أدنى من الاستمرار والنماء. وفي الدول المحترمة ليست هناك مشروعات عملاقة تستنفد غالب موارد الدولة من دون دراسة للجدوى الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، دراسات جدوى حقيقية على أسس علمية معترف بها دوليا حتى يمكن الاستناد إلى نتائجها ومخرجاتها. والدول المحترمة لا تستعين أجهزة أمنها بالبلطجية لمواجهة خصومها من المعارضين السياسيين، ولا تستعين أجهزتها السياسية والإعلامية بالشبيحة في وسائل إعلامها تطلقهم على من تشاء من خصومها... هؤلاء عار على أي دولة محترمة. مصر على مفترق طرق، ولعل استحكام الأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية يعجل بإنزال الستار على تجربة مريرة أذاقت المصريين البلاء، وأفقدتهم أمنهم الاقتصادي في الحد الأدنى من ضرورات الحياة تحت مطارق أزمات وكوارث من ارتفاع سعر الدولار وما يترتب عليه من موجات غلاء لا تبقي ولا تذر غلاء طال كل شيء حتى الخبز المواطنين اليومي. مصر على مفترق طرق، وقد أذنت هذه الحقبة بالرحيل، فلا بد من مخارج وحلول، وقد أوشكت السفينة على الغرق، وليس من الحكمة الانتظار حتى يتم الاصطدام الرهيب بجبل الجليد العائم. هذه دعوة إلى العقلاء ورجال الدولة من كل التيارات والمؤسسات للاجتماع على الحد الأدنى، والقضايا محل الاتفاق العام، فالدول أبقى من الأشخاص، والمؤسسات أبقى من التيارات. amr_doc_oo@yahoo.com
مشاركة :