في 16 حزيران (يونيو) 2016، أغارت طائرات روسية على معبر التنف الحدودي السوري - العراقي شرق تدمر. وكان «جيش سورية الجديد»، وهو مدعوم من الأميركيين إنشاءً وتدريباً وتسليحاً، قد سيطر على المعبر في آذار (مارس) الماضي، وطرد «داعش» من هناك. قُتل جنديان أميركيان في الغارة الروسية، وجرح ثمانية عشر جندياً أميركياً آخرين. لم تكن الأجواء هكذا بين واشنطن وموسكو في الفترة التي أعقبت التدخل العسكري الروسي في سوريا بدءاً من 30 أيلول (سبتمبر) 2015، فبدلاً من أن يرسل باراك أوباما صواريخ ستينغر إلى المعارضة السورية المسلّحة، مثلما فعل الرئيسان الأميركيان جيمي كارتر ورونالد ريغان عقب التدخل العسكري السوفياتي في أفغانستان، تفاهم مع موسكو على مسار حل سياسي للأزمة السورية بدءاً من لقاءي فيينا خريف العام الماضي، مروراً بقرار مجلس الأمن 2254 وصولاً إلى مؤتمر جنيف 3. أيضاً، كانت هدنة 27 شباط (فبراير) جهداً أميركياً - روسياً. وبيّنت مسارات ما بعد 30 أيلول 2015 أن التدخل العسكري الروسي في سورية كان برضا الأميركيين. جاء حادث التنف ليعطي صورة عن خلخلة في التفاهم الأميركي - الروسي حول سورية. وفي 15 تموز (يوليو)، عندما تم الاتفاق في موسكو بين كيري ولافروف حول وضع «داعش» و»جبهة النصرة» في سلة واحدة تمهيداً لضربهما، وفق خطة مشروحة في نص الاتفاق، كانت هناك إيحاءات معاكسة بأن متانة التفاهم الأميركي - الروسي ما زالت قوية. بعد يومين، أغلقت موسكو بالنار عبر الجو معبر الكاستيلو شمال حلب، قبل إغلاقه برياً من حلفاء موسكو على الأرض، فكان رد فعل واشنطن غاضباً، وذهب المسؤولون الأميركيون إلى الحديث عن «خدعة روسية». لم ينفذ اتفاق 15 تموز. كان الإطباق البري على معبر الكاستيلو متاحاً عملياً في شباط للجيش السوري وحلفائه، لتأتي هدنة 27 شباط الأميركية - الروسية مانعة لذلك مقابل وعد أميركي بفك ارتباط «المعارضة السورية المعتدلة» بـ «النصرة»، وهو ما لم يتم بل حصل العكس عندما شاركت تلك الفصائل العسكرية الموضوعة في ذلك التصنيف، في أول خرق منهجي للهدنة من خلال الهجوم الواسع مع «النصرة» على جنوب حلب في آذار. كان التقدير الأميركي- الروسي في 27 شباط 2016، بأن جنيف 3 لا يستقيم كعملية تسوية مع ميل ميزان القوى لمصلحة أحد الطرفين في حلب. في كاستيلو 17 تموز، لم يعد هذا الميزان الحلبي قائماً مع حصار المعارضة المسلّحة في الأحياء الشرقية. كانت التوقعات بأن اتفاق 15 تموز سيقود إلى الجولة الرابعة من جنيف 3 في النصف الأول من آب. أتت الكاستيلو لكي تعطل ليس فقط جنيف 3، وإنما أيضاً اتفاق 15 تموز. وأوحت أن الأمور ليست على ما يرام بين موسكو وواشنطن في سورية. بعد أسبوعين وبالذات السبت 30 تموز، بدأت المعارضة المسلحة السورية هجوماً واسعاً من جنوب حلب، واستطاعت فك الحصار عبر الراموسة عن الأحياء الشرقية لحلب. وكان هناك رضا صامت عند واشنطن عما جرى في جنوب حلب بعد قليل من حديث وزير الدفاع الروسي عن ممرات آمنة لخروج المدنيين والمسلحين من حلب، لكن لم يكن هذا هو اللافت فقط، بما يعنيه من ضرب توقعات موسكو بالحائط، بل سكوت واشنطن عن هجوم عسكري قادته عملياً «جبهة النصرة» بعد ثلاثة أيام من تغيير اسمها ومن إعلان «فك ارتباطها الرضائي مع تنظيم القاعدة»، ليصبح أبو محمد الجولاني أقوى معارض عسكري سوري ولتصبح «الفصائل المعتدلة» منضوية معه ووراءه في «جيش الفتح»، في عملية عسكرية اجتمعت فيها الراموسة مع الكاستيلو لتؤول إلى جعل جنيف 3 في الطريق المسدود. لم يكن انسداد الطريق إلى جنيف ليكون قائماً لو كانت الراموسة عودة إلى التعادل في الميزان الحلبي بعد ثلاثة أسابيع من الكاستيلو وفقاً لمعادلة 27 شباط، بل إن هذا الانسداد حصل بحكم أن عمليتي الكاستيلو والراموسة أتتا بحكم التباعد الافتراقي الروسي - الأميركي. وبحكم هذه القوة المستجدة التي استحصل عليها الجولاني، بدا أن موسكو قد شعرت بعد محاولة الانقلاب التركية التي أتت مساء 15 تموز، بعد ساعات من اتفاق موسكو عند الظهيرة، وبحكم الضعف التركي وبفعل الخلاف التركي - الأميركي عقب محاولة الانقلاب، بأن هناك فرصة لتسجيل هدف خاطف في حلب يقلب المشهد السوري ويُميل موازينه في شكل جذري لمصلحة موسكو. هنا، من المرجح أن حلب كانت قمة جبل الجليد الروسي – الأميركي: موسكو ترسل في آب ديبلوماسياً رفيعاً ليحضر في صنعاء عملية مراسم إعلان تشكيل المجلس السياسي من جانب تحالف الحوثيين - علي عبدالله صالح بعد قليل من تفشيلهم مفاوضات الكويت برعاية أممية مع حكومة الرئيس عبد ربه منصور هادي. لم تكن الأمور هكذا عند موسكو عندما كانت قلقة من تداعيات الاتفاق الأميركي - الإيراني في لوزان (2 نيسان/أبريل 2016) وفيينا (14 تموز2015)، ما دفعها الى التقارب مع السعودية المستاءة من ذلك، وكانت كبرى علامات ذلك التقارب، تمرير الروس قرار 2216 عن مجلس الأمن (يعطي شرعية دولية للتحالف العربي - الدولي في اليمن، ويعترف بشرعية حكم الرئيس هادي). في آب الماضي، عاد التوتر إلى أوكرانيا بعد هدوء بدأ منذ صيف 2015. وفي الوقت نفسه، أعطت طهران موسكو قاعدة عسكرية جوية في مطار همدان، في تجاوز إيراني لقواعد اللعبة مع واشنطن التي من ضمنها احتواء إيران غربياً، بعد ستة وثلاثين عاماً من الصدام، من أجل منع حلف خامنئي - بوتين. ولا شك في أن إعادة التموضع عند الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بعد محاولة الانقلاب، التي فجرت خلافاً مع واشنطن، قادت إلى بدء إخلاء أميركي لقاعدة إنجرليك من الأسلحة النووية، في تقوية الموقع الروسي - الإيراني في الخريطة الجيوسياسية الشرق أوسطية، وأضعفت واشنطن. فردّت الأخيرة من خلال استخدام أكراد سورية ضد أنقرة ودمشق، الحليفة لموسكو وطهران، عبر تفجير الوضع في مدينة الحسكة، واستخدام أكراد إيران عبر نقض «حزب الحياة الحرة لكردستان إيران: بيجاك»، هدنة أيلول 2011 مع السلطة الإيرانية. في ظل هذه الأجواء، من الصعب أن يأتي المطر إلى جنيف 3 حتى لو عقدت جولته الرابعة التي ستكون آنذاك طبخة بحص. في مقابلة مع مجلة «فورين بوليسي» الشهر الماضي، قال روبرت مالي، منسق البيت الأبيض لشؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والخليج، الكلمات التالية: «سواء كان هناك اختلاف بين ما هو على لسان موسكو وما يجول في ذهنها، أو إن كانت موسكو عاجزة عن إجبار النظام السوري على القيام بما يجب، فنحن لا نفقد شيئاً. إننا سنواصل تقديم الدعم للمعارضة السورية، والنظام لن ينتصر. هذا السيناريو ليس هو الأفضل بالنسبة إلينا وبالنسبة إلى الشعب السوري لأن الحرب ستستمر. وليس الأفضل لروسيا التي ستجد نفسها منجرّة إلى حرب يتّسع نطاقها... وحينها، لن تعود هناك أي آفاق لإنهاء الصراع قريباً». * كاتب سوري
مشاركة :