إذا شاء المرء أن يحدّد القاسم المشترك بين أكثر شعوب المجتمعات العربية، فربما يكون «التذمّر» هو السمة الشائعة والأكثر حضوراً وطغياناً في الجدل العام. لا شيء يعجب العربي في هذه القنطرة الملتبسة. فهو يبدأ نهاره بالتأفف والرجاء المرتبك بأن يكون يومه أفضل قليلاً من أمسه، لكنّه نادراً ما يحظى بفرصة أو برهة لتحقيق أمنياته. وفي أي بلد عربيّ، ثمة هموم تجعل الشخص يتذمّر حتى لو كان ذلك بسبب ارتفاع الحرارة وزيادة معدل الرطوبة في الجو، وهذه أكثر أشكال التذمّر ترفاً، لأنها متعلّقة بمزاج الطبيعة المضطرب، في حين أن «التذمرات» الأخرى منشأها الإنسان والنظام ومؤسسات الحكم. تزور عاصمة عربيّة مسيّجة بشعارات الأمن والأمان، فيروّعك مقدار الحُفر في الشوارع التي تجعلك تشعر بأنك تقود دابّة، لا سيارة فاخرة. وتستعجب كيف يظل البشر محتفظين بأرواحهم وهم يندفعون قاطعين الشوارع على نحو انتحاري، لأنّ البلدية لم تخطط الشوارع، ولم تدهن الأطاريف والأرصفة، ولم تحدّد مسارات للمشاة، فأنت وحظك ولياقتك وقدرتك على المرور الخاطف من أمام سيارات تسابق الريح في أكثر المناطق اكتظاظاً بالنساء والأطفال وأبواق البشر والحافلات. وفي عواصم أخرى، لا تزال الشكاوى متصاعدة من أكوام النفايات المتراكمة كتراكم العقبات أمام الاستحقاق الرئاسي. والناس هناك يساوون بين الأمر، فكلها نفايات تعيق مواصلة العيش، كما يعيق العيش انعدامُه أو تمثلاته في الحدود الضئيلة في عاصمة تنتسب بلادها إلى «أم الدنيا»، لكنّ الأم تشكو من كل شيء، ولا ترى في الأفق أي حلول سحرية، على رغم تغيّر الساسة وتقلّب الوجوه، واهتراء الكلام عن مستقبل المواطن «الغلبان» الذي يعدّ عمره بالساعات، ولا يحلم بشيء سوى «حُسن الختام». وفي العواصم المفخّخة التي يعصف بها الموت ويرافقها في حلِّها وترحالها، فإنّ الأحلام تنعدم. فكيف لك أن تحلم بأكثر من عبور شارع من دون أن يقصفك صاروخ سكود، أو سيارة مفخّخة، أو فتى صغير متفجّر يصيبك ولو كنت في بروج مشيّدة؟ الموت سيد اللحظة، وأما الحياة فهي استثناء، أو نُدبة صغيرة فوق جسد فسيح لا تُرى بالعين المجرّدة. لا شيء يعجب العربي الآن، فيأخذ بالشكوى والتبرّم وفي لعن الزمن الفاسد، والسياسات المدجّنة، والرؤوس المطمورة في الرمال. بيْد أن الأمر لا يتجاوز عتبة التذمّر. أي أنّ العرب إذ يجتمعون ويتسامرون ويلتقون، يقذفون تلك الجرعات المتحشرجة في حلوقهم من الشكوى، ثم يعودون إلى مزاولة الحياة والتأقلم مع الفظاعة والألم. ليعودوا بعد ذلك إلى مهنتهم المحبّبة: التذمّر. لكنّ أحداً لا يفكر باجتراح الحلول. لا يفكّر النشطاء المتذمّرون في دقّ جدران الخزّان. لا تفكّر المرأة المعنّفة في تقديم شــكوى للأجهزة المعنية، وتكتفي بالتذمر لصــديقاتها وجاراتها، في حين يكتفي رجل عــجوز بالبـــكاء لأنّ لصوصاً سرقوا أسطوانات الغاز من مخزنه، فتسأله: هل أبلغت الشرطة، فيجيب لا، وماذا يمكن الشرطة أن تفعل، فتعود تسأل: هل جرّبت ذلك قبل أن تصدر هذا الحكم الذي يعفيك من المسؤولية، فيصمت، ثم يعود ليندب حظه العاثر: لماذا أنا دون باقي سكّان العمارة؟! ذات يوم، انكسر غطاء بالوعة للمجاري في وسط شارع تعبره السيارات. كانت الحفرة المكشوفة منذرة بخطر شديد على الحافلات، وتأذت سيارات كثيرة من الحفرة لأنها مخفيّة ويتفاجأ بها السائقون. رأى الحفرة ومرّ بها وعلم بها كثر، لكنّ أحداً لم يبادر إلى فعل شيء، حتى قام ولدي بتحريك حاوية نفايات حديدية مقفلة ووضعها أمام الحفرة لتنبيه السائقين، إلى أن جاء عمّال البلدية بعد عشرة أيام وعالجوا المشكلة. ألم يكن بنيامين فرانكلين على حق حين قال إن «النشاط الأكثر اشتراكاً بين الحمقى هو الانتقاد والشكوى والإدانة»؟. * كاتب وأكاديمي أردني
مشاركة :