أصدرت مجلة «فورين أفيرز» التي تعنى بالشؤون السياسية ملفاً متكاملاً يعكس كيفية معالجة حروب أميركا التي لا تنتهي، وضرورة صياغة الإدارة الأميركية الجديدة لعقيدة سياسية جديدة بدلاً من الموجودة حالياً، ويتحدث الملف أيضاً عن الحد من تقليص الموازنة العسكرية الأميركية لكي تستطيع هذه القوات مقارعة الخطوب الماثلة في الوقت الراهن مثل «داعش»، وغيره من التهديدات، ومن أجل ذلك يقترح الكاتب صياغة استراتيجية دفاعية جديدة. وستنشر «الإمارات اليوم» تباعاً أهم ثلاثة ملفات: العقيدة الأميركية الجديدة، واستراتيجية الدفاع الجديدة، وتعزيز القوات الأميركية لتصبح في وضع أفضل. تحديات الرئيس المقبل الرئيس الأميركي المقبل سيرث مجموعة من التحديات الأمنية الوطنية الملحة، بدءاً من الاستفزازات الروسية واستعراض العضلات الصينية، إلى السلوك السيئ لكوريا الشمالية، وانتهاءً بالفوضى التي تعتري الكثير من دول العالم الإسلامي. ويتوقع الأميركيون أن تتعامل واشنطن مع كل هذه المشكلات، جنباً إلى جنب مع أخرى لم تظهر بعد. وإلى حد معقول فإن فاعلية الاستجابة تستند إلى ما إذا كان الذين يصنعون القرارات قادرين على التمييز بين ما يستطيع الجيش الأميركي أن يفعله، وما لا يستطيع أن يفعله، وما ليس من الضروري أن يفعله، وما ينبغي ألا يفعله. وكشرط أساسي لاستعادة سياسة الولايات المتحدة حكمتها وحسها السليم، يتعين على الإدارة المقبلة صياغة عقيدة أمن قومي جديدة. وعليها القيام بذلك على وجه السرعة، من الناحية المثالية خلال الـ100 يوم الأولى من وصول الإدارة الجديدة إلى سدة الحكم، وهو الوقت الذي تكون فيه السلطة الرئاسية أقل تقييداً، ولم تستهلك بعد الأزمات اليومية قدرة الإدارة على التصرف بشكل استباقي. وينبغي أن تكون «البراغماتية» هي حجر الزاوية لهذه العقيدة، مع التقدير الواعي للحسابات الخاطئة الأخيرة لتصبح أساساً للسياسة المستقبلية. وبعد كل شيء، قدمت القوات الأميركية تضحيات كبيرة في أفغانستان والعراق وأماكن أخرى. وأنفقت وزارة الدفاع الأميركية (بنتاغون) مبالغ هائلة. قيمة العقيدة منذ أن حذر الرئيس الأميركي السابق جورج واشنطن بشأن التورط الأميركي الخارجي في خطاب وداعه للسلطة، لعبت العقائد دوراً متكرراً في توجيه دفة الحكم الأميركي، إذ إنها في بعض الحالات تقدم التوجيهات الضرورية بشأن العمل في المستقبل، وتحديد النوايا وتسجيل الأولويات، وهذه هي الحال مع ما يسمى بعقيدة ترومان في عام 1947، والتي ألزمت الولايات المتحدة بمساعدة البلدان المعرضة للتخريب الشيوعي، وعقيدة كارتر في عام 1980، التي تعتبر منطقة الخليج العربي إحدى مصالح الأمن القومي الحيوي للولايات المتحدة، ما أضاف لأميركا مناطق جديدة ضمن المناطق التي تعتبرها واشنطن أماكن تستحق القتال من أجلها، وبالتالي أطلقت ما يسمى بسياسة عسكرة الشرق الأوسط. وتقع عقيدة بوش عام 2002 ضمن هذه الفئة، التي تقر بأن الولايات المتحدة لن «تنتظر التهديدات لكي تتشكل بالكامل» قبل أن تضرب. وفي حالات أخرى، تهدف العقيدة لكبح جماح النزاعات التي يثبت أنها ضارة، ففي عام 1969، وباعتراف الإدارة ضمنياً بحدود حرية الرئيس، نبّه الرئيس ريتشارد نيكسون حلفاءه الآسيويين إلى خفض توقعاتهم في الحصول على مساعدة الولايات المتحدة، وهذا يعني أن واشنطن من الآن فصاعداً قد توفر الأسلحة والمشورة، وليس القوات. وفي عام 1984، أكد كاسبار واينبرغر وزير الدفاع في عهد الرئيس رونالد ريغان على ضوابط صارمة للتدخل الأميركي في الخارج. وتسعى كل من عقيدتي نيكسون وواينبرغر للحيلولة دون مزيد من التدخل الأميركي في حروب غير ضرورية ويمكن الفوز بها. وتحتاج الولايات المتحدة اليوم الى عقيدة تجمع بين هاتين الوظيفتين، وكحد أدنى، عقيدة أمنية وطنية جديدة تقنن للرئيس باراك أوباما إعجابه بالقول المأثور: «لا تفعل أشياء غبية». أبعد من ذلك، ينبغي أن تضع هذه العقيدة معايير تحكم استخدام القوة وتوضح مسؤوليات كل من أميركا وحلفائها. وينبغي أن تتضمن عقيدة الأمن القومي الأميركي الجديدة ثلاثة أحكام أساسية: عدم استخدام القوة إلا كملاذ أخير، وإشراك الشعب الأميركي بالكامل عند الذهاب الى الحرب، والطلب من حلفاء الولايات المتحدة القادرين توفير أمنهم بنفسهم. الحرب ملاذ أخير عودة إلى عام 1983، إذ أكد ريغان للأميركيين والعالم بأسره أن «سياسة الولايات المتحدة الدفاعية تستند إلى فرضية بسيطة، هي أن الولايات المتحدة لا تبدأ القتال، ولن نكون أبداً معتدين». وكما هي الحال في التلاعب بالألفاظ في كثير من الأحيان، فقد تدخلت الولايات المتحدة عسكرياً نيابة عن الرئيس العراقي السابق صدام حسين في حربه ضد إيران، ومع ذلك، كان ريغان محقاً في أن الولايات المتحدة ينبغي أن تتجنب بدء المعارك، وينبغي أن يلتزم الرئيس الأميركي المقبل بهذا الموقف، وأن يلغي صراحة عقيدة بوش وينبذ الحرب الوقائية بشكل دائم. وسواء كان «هو» أو «هي» يجب أن يعمل الرئيس المقبل على استعادة الدفاع والردع، كمهمة أساسية للقوات الأميركية. أوهام ما بعد الحرب الباردة حول استخدام العنف لصياغة نظام عالمي تنبع من افتراضات محددة حول التغيرات في طبيعة الحرب التي منحت الولايات المتحدة موقعاً يبدو ظاهرياً أقرب إلى التفوق العسكري المطلق، إلا أن افتراضات التفوق العسكري الظاهري فشلت تماماً بعد اختبارها بدقة في أفغانستان والعراق، وحتى في عصر البيانات الكبيرة ومع الطائرات بدون طيار، والأسلحة بعيدة المدى الموجهة بدقة، فإن طبيعة الحرب لم تتغير، ويبدو أن مخططي الحرب اليوم، الذين يحصلون على صور واضحة عن ساحة المعركة، تأتي مباشرة إلى مقار رئاساتهم من مئات أو آلاف الأميال من موقع القتال؛ ليسوا أفضل اطلاعاً من «جنرالات شاتو» خلال الحرب العالمية الأولى الذين يحدقون في خرائطهم، ويرسمون في خيالهم صورة للجبهة الغربية، ويتوهمون أنهم يقودون القتال بأنفسهم في ساحة المعركة. وتظل الحرب كما كانت عليه دائماً، ساحة للفرص التي من الصعب جداً توقعها أو التحكم فيها، وتحمل كثيراً من المفاجآت. وبوصفها أقوى دولة في العالم، يجب على الولايات المتحدة ألا تذهب إلى الحرب إلا بعد أن تستنفد تماماً جميع البدائل الأخرى، وعندما تكون المصالح الحيوية على المحك فقط، وهذا لا يعني أن تحدد الولايات المتحدة تسلسلاً هرمياً للمصالح، ومن ثم تضع خطاً تحت كل شيء يستحق الدفاع عنه وكل شيء لا يستحق ذلك، فهذه تعد لعبة خاسرة، وبدلاً من ذلك، فإن ذلك يعني التخلي عن التحيز لمصلحة ضبط النفس كمضاد للميل ضد التدخل المتهور أو غير المدروس، الذي كلف الولايات المتحدة غالياً في الوقت الذي انحدرت بلدان مثل العراق وليبيا إلى الفوضى، وبدلاً من ذلك ينبغي أن تحتفظ أميركا بالسلاح جاهزاً مصوناً ومذخراً ولكن داخل جرابه. تقاسم العبء عندما تذهب الدولة للحرب تحذو الأمة حذوها، ومنذ نهاية الحرب الباردة، أصبحت الممارسة السائدة في الولايات المتحدة على العكس من ذلك، ما يعكس التوقعات بأن القوة العظمى يجب أن تكون قادرة على شن حملات بعيدة، بينما لا تتأثر الحياة على الجبهة الداخلية. وخلال الحروب في أفغانستان والعراق، وهي الأطول في تاريخ الولايات المتحدة، فإن الغالبية العظمى من الأميركيين استجابت لتشجيع بوش بعد 11/9 الذي حث على «الاستمتاع بالحياة، بالطريقة التي نريدها»، فالعبارة الضمنية «نحن نتسوق في حين تخوض قواتنا الحرب» في هذا السياق، قد قوضت الفاعلية العسكرية الأميركية، وأدت إلى اللامسؤولية السياسية. وسترث الإدارة المقبلة علاقة فضفاضة ومعيبة بين المدنيين والعسكريين، يعود تاريخها إلى حرب فيتنام، فمنذ ما يقرب من نصف قرن على تلك الحرب، فإن عدم مبالاة المدنيين بالصراع الذي تقوده الولايات المتحدة جعل الأميركيين يتخلون عن تقاليد المواطن الجندي الذي كان حتى ذلك الحين يشكل الأساس للنظام العسكري الأميركي، فبعد رفضه القبول المسبق للتجنيد الإجباري، تجاهل الشعب الأميركي على نحو فعال الحرب، التي أصبحت اختصاصاً حصرياً لـ«الجيش النظامي»، وهو الشيء الذي حذر منه مؤسسو البلاد. وكلما اقتصرت جهود الولايات المتحدة الحربية على الحالات الطارئة الصغيرة الحجم، مثل غزو غرينادا أو قصف كوسوفو، أو حملات لمدة محدودة، مثل حرب الخليج عام 1990-1991، فإن مثل هذا الترتيب يعمل جيداً وبما فيه الكفاية. وفي عصر الحروب الطويلة، فإن سلبيات التدخل تبدو واضحة وضوح الشمس. وعندما أفرز غزو أفغانستان والعراق مستنقعين توأمين، وجدت الولايات المتحدة نفسها بحاجة للمزيد من الجنود أكثر مما كان يتوقعه مخططو الحرب، ولم تعد تلك الازمنة عندما كانت البلاد في الماضي تستطيع حشد الجيوش الى حد كبير في القرن التاسع عشر، واستدعاء الجماهير من المتطوعين للقتال تحت العلم، واعتمادها في القرن العشرين على كثافة الجنود النظاميين. وعلى الرغم من توافر أعداد كبيرة وكافية من الرجال والنساء للخدمة العسكرية، فإن القليل جداً منهم يقبل بالانضمام للجيش، ويبدو أن شهية واشنطن للحرب لم تكترث لاستعداد الأميركيين في سن العسكرية لخوض القتال (وربما الموت) في سبيل بلادهم. التحرر من مسؤولية الحلفاء أخيراً، يجب أن تضع العقيدة العسكرية الجديدة حداً لمسؤولية أميركا في الدفاع عن الآخرين، وينبغي أن توفر هذه المساعدة فقط للأصدقاء والحلفاء غير القادرين على الدفاع عن أنفسهم. القضية الأساسية هنا ليست بشأن تحمل التكاليف - على الرغم من أننا قد نتساءل: لماذا يتحمل دافع الضرائب الأميركي والجنود الأميركيون أعباء الدفاع عن الآخرين القادرين على تحمل مثل هذه النفقات؟ - وإنما بشأن الهدف الاستراتيجي النهائي. ممارسة القيادة العالمية ليست غاية في حد ذاتها بل وسيلة لتحقيق غاية، والغرض منها هو استقطاب عدد كبير من «العملاء» والأتباع، أو لتبرير وجود جهاز الأمن الوطني الهائل، ولتعزيز مجتمع من الدول ذات التفكير المماثل ترغب وتستطيع الوقوف على قدميها. وفي حين أن الوالدين يدركان أن الوقت سيأتي عاجلاً أو آجلاً ليتخليا عن أبنائهما، فإن مثل هذا الدرس ينطبق على حالة أميركا. وتعد أوروبا خير مثال على ذلك، ففي أعقاب الحرب العالمية الثانية، كانت الديمقراطيات المتداعية في أوروبا الغربية بحاجة إلى حماية الولايات المتحدة، واليوم زالت تلك الأخطار. حان وقت التغيير في نوفمبر المقبل قد تعاود عبارة «أميركا أولاً» الظهور من جديد، باعتبارها الركيزة الأساسية لسياسة الولايات المتحدة، ففي حين يعتقد البعض أن هذه العبارة قد فقدت مصداقيتها بشكل دائم مع أحداث الحرب العالمية الثانية، فإنها توشك اليوم أن تعود من خلال خطاب المرشح الجمهوري للرئاسة دونالد ترامب، إذ يوظفها لمصلحة حملته الانتخابية عندما يتعلق الأمر بالشؤون الخارجية. واعتماداً على كيفية تفسير المسؤولين لهذا الشعور، فإن الشعب الأميركي والعالم بأسره قد يرحّب بها أو يشجب إحياءها. وبغض النظر عن الفائز في الانتخابات، أو السلوك الذي قد يمارسه داخل المكتب البيضاوي، سيكون لزاماً على الإدارة المقبلة إجراء تقييم نقدي بشأن خيبات الأمل العسكرية الأخيرة في البلاد، وصياغة عقيدة أمنية وطنية جديدة تعد خطوة أساسية نحو تحقيق هذا الواجب الرسمي، إلا أن الآثار المترتبة على مثل هذه العقيدة ستستغرق سنوات طويلة. وفي هذه الأثناء، فإن أنصار الوضع الراهن سيشنون هجوماً مضاداً شرساً، ويصر أنصار التدخل على أن أعداء البلاد قد يفسرون ضبط النفس على أنه ضعف، أما شركات تصنيع الأسلحة فستعارض بالغريزة أي شيء من شأنه أن يؤثر في إنفاق وزارة الدفاع الأميركية، وستجادل هذه الشركات بشأن مضاعفة الجهود لتحقيق السيادة العسكرية الدائمة. من جانبهم، سيظل قادة القوات المسلحة مشغولين بحماية مصالحهم الخاصة وحصتهم من الميزانية. وسيجادل جميعهم بأن السلامة تكمن في بذل المزيد من الجهد، مع عدم المساس بالميول التي شوهت سياسة الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب الباردة. وفي جميع الاحتمالات، فإن المزيد من الشيء نفسه سيجعل الأمور أكثر سوءاً، ويكلف الأميركيين وغيرهم ثمناً باهظاً. كلما اقتصرت جهود واشنطن الحربية على الحالات الطارئة الصغيرة أو حملات محدودة، فإن مثل هذا الترتيب يعمل جيداً. عندما أفرز غزو أفغانستان والعراق مستنقعين توأمين، وجدت الولايات المتحدة نفسها بحاجة إلى المزيد من الجنود أكثر مما كان يتوقعه مخططو الحرب.
مشاركة :