القاهرة: الخليج هو واحد من بين أبرز كتاب الرواية في القرن العشرين، وصاحب مشروع أدبي استمر قرابة سبعة عقود من الزمن، أصدر فيها خمساً وعشرين رواية، إضافة إلى كتب الرحلات والسيرة الذاتية. وكان قد وصل إلى القائمة القصيرة لجائزة نوبل عام 1967 إلا أنه لم يحصل عليها. نالت رواياته شعبية كبيرة بسبب أحداثها المثيرة التي تدور في مناطق بعيدة، وتتضمن مطاردات ومخاطر، وتخوض في تفاصيل عالم الجاسوسية، ومع ذلك أظهرت أعماله قدرة على التعبير عن المأزق الوجودي للإنسان في العصر الحديث. ولد غراهام غرين عام 1904، في عائلة ثرية، إلا أنه كان طفلاً مُتمرداً ويُعاني أزمات نفسية دفعته إلى محاولة الانتحار أكثر من مرة، والهرب من عائلته في السادسة عشرة من عمره. بعد أن عثر عليه أهله، أرسلوه إلى لندن للإقامة لدى طبيب نفسي لمدة ستة أشهر، إلا أن ميوله الانتحارية لازمته لفترة. بالطبع لم يكن يُحب الدراسة، ولم يكن طالباً متفوقاً، إلا أنه التحق بجامعة أكسفورد لدراسة التاريخ، حيث أصيب بحالات اكتئاب قوية، لكنه أصدر ديواناً شعرياً لم ينل أي اهتمام. تخرج في الجامعة عام 1925 وعمل مُعلماً لبعض الوقت قبل أن يعمل صحفياً في صحف شهيرة عدة. أصدر روايته الأولى عام 1929، ولاقت نجاحاً كبيراً مكنه من التفرغ لكتابة الروايات إلى جانب كتابة بعض المقالات للصحف، إلا أن شهرته الحقيقية جاءت مع روايته الرابعة قطار إسطنبول عام 1932، والتي تحولت إلى فيلم شهير هو قطار الشرق السريع. تحول غرين إلى الكاثوليكية عام 1926 على يد فيفيان براوننج، التي تزوجها في العام التالي، وتناولت بعض رواياته شخصيات تتعامل مع الواقع بمنظور كاثوليكي، ما جعل الكثير من النقاد يعتبرون أعماله روايات كاثوليكية. نفى غرين بشدة هذا الوصف، لكن اسمه ارتبط بهذا النوع من الروايات حتى الآن، وربما يرجع السبب إلى استخدام روايته الشهيرة القوة والمجد، وهي من أهم روايات القرن العشرين، في سياق سياسي واعتبارها عرضاً لاضطهاد رجال الدين، رغم انتقاد الرواية لرجال الدين بقدر انتقادها لرجال الثورة المكسيكية. تدور أحداث الرواية حول قيام أحد الضباط بمطاردة أحد القساوسة بعد قيام الثورة المكسيكية، لأن الثوار ألقوا القبض على رجال الدين لدورهم المشبوه في دعم الإقطاعيين، وممارساتهم التي أدت إلى ظلم الشعب المكسيكي. أثناء المُطاردة المثيرة، يحاول بعض الفلاحين حماية القس رغم إدراكهم لفساده، ويُدرك القس كم كان حقيراً حين خدع هؤلاء البسطاء. قدمت الرواية شخصيات واقعية، لكل منها مميزاته، وعيوبه، ومبرراته ولحظات ضعفه. كان القس في الرواية فاسداً ومُخادعاً بينما كان الضابط شريفاً رغم قسوته ورغبته في الانتقام، لكن القارئ يتعاطف قرب نهاية الرواية مع القس الذي يُقرر العودة إلى المكسيك بعد اجتياز الحدود، لكي يستمع إلى اعتراف سيدة تحتضر، رغم ثقته بأن الضابط سوف يلقي القبض عليه. وفي عام 1953، هاجم مكتب بابا الفاتيكان الرواية، لأنها دمرت سُمعة ومكانة القساوسة، وحين التقى جرين بالبابا بول السادس، أخبره البابا أن روايته أغضبت الكاثوليك، لأنها تحمل الكثير من الإساءة إليهم. كتب غرين عدداً من الروايات التي تتناول أحداثاً سياسية، عُرفت بروايات المؤامرة الدولية، وتدور أحداثها حول عالم الجاسوسية. وكان يستند في كتابة تلك الروايات إلى خبرته الشخصية، إذ دخل إلى عالم الجاسوسية بعد أن جندته المخابرات البريطانية أثناء الحرب العالمية الثانية، وكان يستخدم الأماكن والشخصيات والأحداث الحقيقية في رواياته. استغلت المخابرات عمله كصحفي وقدرته على التنقل بحرية في أغلب دول العالم. وكانت علاقته بالزعيم الكوبي فيدل كاسترو قوية بشكل مثير للاهتمام، فهناك أقاويل أنه كان يساعد ثوار كوبا أثناء حربهم في الجبال، كما التقى كاسترو بعد وصوله إلى الحكم، وأهداه كاسترو لوحة رسمها بنفسه، إلا أنه أعرب عن غضبه من جرين بعد أن قرأ روايته رجلنا في هافانا عام 1958، والتي تدور أحداثها في كوبا، لأنها لم تعرض لمساوئ فترة حكم باتيستا كما ينبغي. وفي عام 1966، نشر جرين رواية الممثلون الكوميديون، التي تدور أحدثها في هايتي وتنتقد التعذيب في السجون، والتي أغضبت حاكمها فرانسوا دوفاليه، وجعلته يحاول الانتقام من جرين. وصف جرين أعماله التي تدور في عالم الجاسوسية بأنها ليست روايات، بل مجرد قصص مُسلية، كما اتهمها عديد من النقاد بالافتقار إلى الطابع الأدبي الحقيقي، وبأنها روايات سينمائية الطابع، وأنه كان يكتب الرواية كأنه يكتب سيناريو لأحد أفلام هوليوود، ولهذا تحولت أغلب قصصه وروايته إلى أفلام، حقق بعضها شهرة عالمية. استدعى عمل غراهام غرين لحساب المخابرات البريطانية السفر إلى الكثير من دول العالم، خاصة في إفريقيا وأمريكا اللاتينية، لهذا كانت تلك البلاد مسرحاً لأحداث رواياته، إلا أن أغلب الشخصيات التي تظهر فيها هي شخصيات أوروبية. وتعتبر رواية قضية خاسرة واحدة من أهم رواياته على الإطلاق، لأنها أكثر ما كتب تعبيراً عن أزمة الوجود الإنساني، بطلها مهندس شهير وثري، يكتشف مدى خواء حياته وافتقارها إلى أي معنى، فيقرر التخلي عن ثروته ومجده ليقضي حياته في العمل في مصحة لمرضى الجُذام بالكونغو، يُديرها مجموعة من المُبشرين الأوروبيين. تعكس هذه الرواية ما يتعرض له إنسان العصر الحديث من أزمات روحية تعصف به وتفقده الإحساس بالحياة. وكان جرين يرى أن المنظور الديني من أهم العوامل في فهم الإنسان وأزمته الوجودية، وقد يؤدي إغفال هذا المنظور إلى أن تبدو الشخصيات أشبه بنماذج كرتونية تتحرك في عالم من الورق. اتسمت شخصياته الرئيسية كذلك بالحيرة والعجز في مواجهة الطبيعة والتعرض لسوء الفهم في العلاقات البشرية، كما تبوء محاولاتها في فهم الواقع أو التكيف معه بالفشل. بعد أن بلغ الثمانين من عمره، قرر غرين الانعزال عن العالم وقضى سنواته الأخيرة في قرية فيفي بسويسرا، وهناك التقى بالفنان العظيم تشارلي شابلن الذي اختار نفس القرية ليقضي بها آخر أيامه، وجمعت بينهما صداقة قوية. ومن المفارقات الطريفة أن ذلك الصبي الذي حاول إنهاء حياته مرات عدة، عاش حياة طويلة وتوفي وهو في السابعة والثمانين من عمره، عام 1991. نال جرين قبل وفاته العديد من الجوائز وحصل على وسام الاستحقاق البريطاني عام 1986، كما استمر الاحتفاء بتراثه بعد وفاته، إذ يقام مهرجان دولي سنوي باسمه، ويُعقد يوم عيد ميلاده في القرية التي ولد بها. وفي عام 2013، تم عرض فيلم تسجيلي بعنوان حافة خطرة: حياة غراهام غرين، وهو فيلم مكون من ثلاثة أجزاء يعرض لحياة مُبدع حقيقي كانت حياته أشبه بمُغامرة خطيرة، حاول أن يعكس بعض محطاتها في العديد من الروايات، إلا أن مجده الأدبي الحقيقي تأسس على عدد قليل من الروايات الخالدة، تمكن خلالها من التعبير الصادق عن أزمة الإنسان المُعاصر.
مشاركة :