ومن الشعر ما قتل، ومن النثر ما قتل. عنوانان لخبر واحد بثته مؤخرا وكالة أنباء «نوفوستي» الروسية عن شجار شب بين معلّمين في إحدى مدن روسيا، بسبب إصرار أحدهما، على أن الأدب الفعلي الوحيد هو النثر. هذا الإصرار لم يعجب الآخر المنحاز للشعر، فتصاعد النقاش واحتد بين الرجلين للدرجة التي لم تعد تكفهما الكلمات لحسمه كما يبدو. العنوان أعلاه يشير إلى أن ذلك النقاش بين الاثنين انتهى أخيرا بجريمة قتل. حيث لجأ المعلم الذي يفضل الشعر للسلاح الأبيض فسحب السكين وطعن زميله عاشق النثر حتى الموت. لم تكن لحظة شعرية ولا نثرية بل كانت لحظة عجز فيها كل واحد منهما عن إقناع زميله بوجهة نظره أو على الأقل بحقه في الإيمان بوجهة نظر مهما كانت. قرأت الخبر بعنوانيه المثيرين، في عدة صحف ومواقع إلكترونية نشرته، وكل منها اختارت ما يناسب ذوق محررها كما يبدو انحيازا للشعر أو النثر واعتباره القاتل على الرغم من أنه كبقية مكونات المشهد الدموي العنيف مجرد ضحية. لماذا يضطر أحدهم أن يدافع عن "مادة" مكونها الأساسي هو الكلمات بسلاح آخر غير الكلمات؟ هل الكلمات سلاح فعلا؟ هل تكفي كسلاح لحسم الأمور العالقة بين البشر بغض النظر عن أهمية هذه الأمور؟ هل الشعر والنثر، بوصفهما الفني البحت مما يمكن أن يكون الاختلاف حولهما مؤدياً للقتل؟ في حكاية المعلمين، كما أتوقع، الكثير من التفاصيل التي لم توردها وكالة الأنباء في عجالتها الخبرية مما كان سيساعد على تفسير المشهد القاتل بشكل أكثر واقعية. فقد يكون هناك الكثير من الركام في مسار العلاقة بين الرجلين للدرجة التي أصبح فيها النقاش "المترف" بينهما حول أهمية الشعر والنثر هو القشة التي قصمت ظهر تلك العلاقة أخيرا ووجهت السكين لهدفه. ولكننا لسنا بحاجة تلك التفاصيل الغائبة ونحن نتخذ من تلك الحادثة مثالا يتكرر بأشكال وصور مختلفة في نقاشات مشابهة لذلك النقاش. صحيح أن تلك النقاشات لا تنتهي بالضرورة نهاية دموية يموت فيها أحدهم بطعنة سكين أو رصاصة مسدس، الكثير من نهاياتها لا تقل بشاعة في الأثر الذي تتركه وراءها من بشاعة أثر طعنة المعلم الروسي القاتلة لزميله. ولو قدر لنا أن نفتش في صدور بعض من نعرف مما حولنا من "المثقفين"، على سبيل المثال، لاكتشفنا الكثير من الطعنات الغائرة بين ثنايا الروح، نتيجة نقاشات تقترب في طبيعتها من نقاش المعلمين الروسيين، حيث تعجز الكلمات عن الدفاع عن نفسها فيستعين أصحابها في قمة تعصبهم دفاعاً عنها بأسلحة أخرى، قاتلة أيضاً حتى وإن لم تود بضحيتها للموت! ولو عنَّ لأحدكم أن يسألني عن تجاربي الشخصية على هذا الصعيد لاستعنت ببلاغة المتنبي: حسناً.. تكسرت النصال على النصال!
مشاركة :