من فوق “تورا بورا”.. قصة طائرتين

  • 2/16/2014
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

لا أعلم كيف أستطيع إعادة ترتيب هذه الصور المتزاحمة في خيالي وذاكرتي وأيضاً لحظات نهاية مسائي الأخير على هذه الطائرة، التي تعبر على بعد (لحيظات) من فوق تورا بورا. من شمال قندهار من جنوب بيشاور، حيث كان هذا المثلث من مساحة هذه الأرض الواسعة ولعقدين من الزمن وأكثر من هذا بكثير مسرحاً لتجارب مريرة لا أعتقد أنها تركت مجتمعاً صغيراً أو كبيراً على هذا الكون الواسع دون أثره وتأثيره. سأحاول رغم أن زحمة الصور وتناقضاتها وتبايناتها أيضاً بحاجة إلى فنان (فسيفساء) لجماليات المقاطع والألوان أكثر من حاجتها لمخيال كاتب حتى ولو اشتغل لزمن طويل كي يفهم تحليل ما حدث. مع تباشير فجر الأمس (السبت) كنت أراقب وأتأمل وجوه بضعة شباب من الجيل السعودي الجديد متناثرين في مؤخرة الطائرة المسافرة من الرياض إلى إسلام أباد: أحاول تقريب ومقاربة المقارنة مع صورة خيالية تخيلية أخرى من الذاكرة. ابنة عم هذه الطائرة بالضبط كانت قبل عقدين من الزمن تذرع ذات المسافة ما بين البلدين والمجتمعين ولكن بشباب مختلف، لهدف مختلف ومهمة مختلفة. كانت (ابنة عم) هذه الطائرة بالتحديد تهبط في (بيشاور) المجاورة بحمولة علنية تحولت بفعل ضياع الأهداف وخطأ البوصلة إلى حمولات هائلة من الخلايا النائمة وكتائب المنظمات السرية. كانت ابنة عم هذه الطائرة مشحونة قبل عقود بحمولة من العواطف والشحن المبرمج بطرق زادت فيزياءها عن المعدل الطبيعي حتى تحول هذا المثلث الجغرافي الملتهب إلى المساحة الأخطر على أمن الكون وسلامته في لحظة من الجنون التاريخي لعقد أكثر جنوناً من هذا الزمن. لماذا كتبت، ولماذا قفزت إلى الخيال هذه الصورة ما بين (قصة طائرتين)؟ كنت في مؤخرة الطائرة الخاصة عندما كانت أشعة شمس الصباح ترسل خيوطها فوق هذه الجبال المتناثرة قبل ساعة من الوصول عندما جاءني (شاب) لا أظنه قد تجاوز العام العشرين (من رفقاء المهمة والرحلة) ليسألني: متى سنكون أقرب لأفغانستان؟ قلت له: هي (ربما) تلك، على أطراف اليسار البعيد بحسب ما فهمته من مسار الرحلة وبمقدار قدراتي الواثق منها على فهم تفاصيل الخريطة. ظل هذا الشاب ينظر بعيداً بعيداً بعمق وحزن ثم عاد إلي ليقول: إن لي فيها روحاً ترفرف اليوم في قبر من هذه الجبال الجرداء يوم مات ذات زمن، كما قيل لنا في جلال أباد الأفغانية. هنا الدهشة: هو لا يعلم أن لي أيضاً روح ابن عمي وشريك اسمي وعروقي أيضاً بهذه الأرض البعيدة ترفرف بجوار ما بقي من عظام أخيه ويا لمفارقة الصدفة: روحان ترفرفان منذ ربع قرن من الزمن كما فهمت من تفاصيل اللقطة. أدعو لهما ولكل مسلم بالقبول والرحمة والمغفرة. قلت لهذا الشاب أن يهدأ وأن يطمئن لأن الروحين رحلتا في رحلة نزيهة بريئة من تقبل تلك الرحلة. رحلة هذه الطائرة وخط سيرها من الرياض إلى إسلام أباد، عبوراً فوق مثلث الرعب وفوق أجواء بيشاور وغرب قندهار تبرهن أن الآلاف من شبابنا قد دفعوا إلى مثلثات ومربعات وهم لا يدركون طبع وطبائع النسق الثقافي ولا المكون المذهبي الديني ولا الحاضنات المجتمعية ومسالكها في تلك الأماكن. وخذ بالمقاربة أن طائرتنا أقلعت من محيط سني سلفي لتعبر بعد قليل فوق أراضين غالبية شيعية قبل أن تعود إلى محيط سني في جنوب باكستان ثم تميل شمالاً فوق مساحة شاسعة من جنوب غربه الشيعي. عبرت أيضاً من فوق أكبر حقول النفط مثلما عبرت أيضاً من فوق أكبر حقول الحشيش والقنب على وجه الأرض. لم يعلم آلاف الشباب الذين ذهبوا إلى هناك أن منطقة خيبر ومجراتها وجبالها الشاهقة كانت وما زالت مركزاً لثقل الطرائق الصوفية النقشبندية بالتحديد، تلك التي شحنوا بمحاربتها والتشكيك في عقائدها لو أنها ظهرت في محيطهم السني السلفي في الأصل، بل أحياناً إلى تكفير أتباعها ثم يذهبون للقتال والجهاد نيابة عن أهلها في معارك بألف لون ومذهب وفصيل وطريقة متباينة. وحين أنظر إلى هؤلاء الشباب مساء البارحة في مؤخرة طائرتنا ومن فوق هذا المثلث، أستعيد فوراً قصة ابنة عمها من مخيال الطائرات القديمة التي عبرت بالآلاف من شبابنا دون الحد الأدنى من دراسة وفهم طبائع وظروف المجتمع الذي يذهبون إليه. أدركت لاحقاً لاحقاً أن حمولات هذه الطائرات من آلاف الأبرياء كانت تذهب إلى مجرد محطة تجميع لا علاقة لها بالجهاد الأفغاني. كيف: خذوا هذه اللقطة: الذي قتل أول شهيد سعودي في غزوة المحيا الشهيرة بالرياض هو زميل فصله الابتدائي بحي المربع. عرفت هذا لاحقاً فبكيت. لم يكن يقصده بالضبط ولكنها البوصلة الضائعة. الوطن

مشاركة :