يتّجه المشهد السياسي اللبناني الى متاهة غامضة للغاية بفعل التصعيد الذي فرضه «التيار الوطني الحر» (يقوده العماد ميشال عون) على كل القوى السياسية من خلال مقاطعته اولاً لجلسات مجلس الوزراء ومن ثم تَسبُّبه ثانياً بتعليق جلسات هيئة الحوار الوطني وربما تهديده لاحقاً لمصير الحكومة برمّتها. وغداة الجولة الأخيرة للحوار التي انتهت الى تعليق الجلسات من دون تحديد موعد جديد لاستئنافها، لم تكن الصورة قد اتضحت بعد حيال المصير المحتمل للحكومة عشية جلستها المقررة غداً، إلا اذا حصل تطور ما في الساعات التي تسبق انعقادها. ذلك ان المشاورات فُتحت على الغارب عقب إطاحة «التيار الحر» بجولة الحوار الأخيرة من خلال إعلانه تعليق مشاركته في الطاولة التي يستضيفها رئيس البرلمان نبيه بري. وتتركز هذه المشاورات على استنقاذ الحكومة من انهيارٍ يبدو جدياً ما لم تنجح المساعي في تَدارُك وصول الأجواء التصعيدية الى حافة دفع الحكومة الى الاستقالة. وأكدت مصادر وزارية مطلعة على هذه المشاورات لـ «الراي» ان اللوحة تبدو قاتمة في ظل صعود الخطاب العالي النبرة لـ «التيار الحر» وسعيه إلى الاعتراض على مسّ الميثاقية. ولفتت الى «ان التيار العوني لا يجد حرجاً في اثارة بعض الأجواء من خلال احتكار صفة تمثيل المسيحيين والتحدّث عن مظلومية مسيحية وصولاً الى سؤال رئيس التيار الوزير جبران باسيل المسلمين... بدكن يانا او ما بدكن»، واعتباره «ان الأزمة الراهنة أكثر من وجودية ونحن بصراحة نفقد القناعة بإمكانية أن نستمرّ في العيش سوياً إذا استمر هذا الاستهتار والاستخفاف بحقوق مكوّن لبناني أساسي». علماً ان هذا السقف العالي تَسبب في تفجير اشتباك كلامي حادّ مع رئيس تيار المردة النائب سليمان فرنجية، فيما وصف بري كلام باسيل بأنه «الأخطر منذ الحرب الأهلية وهو ينذر بحرب أهلية جديدة». ولاحظت المصادر ان «الاتصالات التي جرت في الساعات الأخيرة والتي ستتواصل اليوم على هامش انعقاد الجلسة الـ 44 لانتخاب رئيس الجمهورية والتي لن تفضي الى شيء كالعادة، تركّزت على وزراء (حزب الله) وحلفاء التيار العوني لمعرفة المواقف التي سيتخذونها من حضور جلسة مجلس الوزراء غداً او عدم الحضور». وقالت ان الصورة تبدو ضبابية جداً لكون مختلف القوى تجري حسابات معمقة حيال الواقع الذي تَسبب به «التيار الحر» بدفْعه الأمور نحو تصعيد مفتوح ربما يبلغ حدود تحريك الشارع العوني، موضحة ان رئيس الحكومة تمام سلام لم يقرر بعد الخطوة التي قد يقدم عليها، وسط محاولة حلفاء عون وبعض الشخصيات السياسية الأخرى إقناعه بتأجيل الجلسة بقرار مسبق منه لئلا يحرج الجميع بإصراره على عقدها ومن ثم إطاحتها باضطرار وزراء «حزب الله» الى التغيب تضامنا مع حليفه العوني. ذلك انه رغم الموقف الذي اتخذه ممثل «حزب الله» النائب محمد رعد في جلسة الحوار من خلال دعوته باسيل الى التريّث في خطوة الانسحاب من الحوار، فان المصادر تؤكد ان الحزب لن يمضي على الأرجح في حضور جلسة مجلس الوزراء غداً، لافتة الى ان سلام يدرس كل الخيارات وبينها امكان إرجاء الجلسة تفادياً لدفْع «التيار الحر» الى خياراتٍ جذرية من مثل الاستقالة التي ستعني نقل الأزمة الى مستوى أشدّ تعقيداً، ومشيرة الى ان في حسابات رئيس الحكومة ايضاً ان التسليم بشروط عون ومنطقه حول قواعد الميثاقية من شأنه إرساء أعراف تتناقض مع الدستور وتعطي المجموعات السياسية حق استخدام «الفيتو» في انعقاد مجلس الوزراء او عدمه. ومع ذلك تقول المصادر ان التصعيد العوني وضع مختلف القوى ولا سيما منها الحليفة لهذا الفريق أمام محكٍ صعبٍ وحاسمٍ لتبيُّن الخط البياني لمسار الأزمة الجديدة التي تَسبّب بها والتي سترغم الجميع على تحديد اتجاهاتهم او اللجوء الى وساطاتٍ من اجل اجتراح مخارج تحول دون انهيار الحكومة على مشارف تَوجُّه رئيسها الى نيويورك في النصف الثاني من سبتمبر للمشاركة في اعمال الدورة العادية للأمم المتحدة. واذ رجّحت المصادر الوزارية المطلعة عبر «الراي» تبعاً لذلك تأجيل جلسة مجلس الوزراء كسبيل اضطراري للتهدئة الموقتة من دون ان يكون ذلك محسوماً تماماً، تقول ان ذلك سيستتبع ترحيل الأزمة الى أواخر سبتمبر اي الى حين عودة سلام من نيويورك قبل نهاية الشهر بقليل. والسؤال الذي تردّد امس في هذا السياق المأزوم، هو هل يتمّ التمديد لقائد الجيش العماد جان قهوجي قبل سفر سلام او يُرجأ اياماً قليلة ريثما تسري الوساطات؟ علماً ان هذا الاستحقاق بات داهماً ولا يحتمل إرجاءً الى وقت طويل لان نهاية خدمة قهوجي أواخر سبتمبر تملي اتخاذ قرار تأجيل التسريح بسرعة. وأضيف الى هذا المأزق في الساعات الأخيرة مأزق آخر تَمثّل في وقف المخصصات المالية للجيش الأمر الذي كان وراء دعوة بري الى النواب لتخصيص نصف رواتبهم عن اكتوبر للجيش. وبحث هذا الاستحقاق في اجتماع بين سلام وقائد الجيش الذي نقل الى رئيس الحكومة موقفاً صارماً من عدم التسامح مع تأخير المخصصات المالية للمؤسسة العسكرية فيما هي تخوض تحديات ضخمة. في اي حال، تبدو الساعات المقبلة حافلة بالمشاورات والاتصالات في كل الاتجاهات سعياً الى منع انهيار الحكومة واتجاه البلاد نحو تعميم التعطيل على مختلف المؤسسات الدستورية في سابقةٍ تحمل معالم خطورة متعاظمة وتضع البلاد امام متاهة الفوضى وتهديد الاستقرار. وكان لافتاً امس الموقف الذي أدلى به الرئيس أمين الجميل بعد لقائه رئيس مجلس النواب اذ توجّه إلى «أرباب السياسة في لبنان» قائلاً: «لبنان ينتحر ونحن نمر بمرحلة استهتار وما نعيشه لم يمر به لبنان سابقاً، والمرحلة دقيقة وهناك تغيير خرائط ولقاءات تحاول إعادة النظر بالمنطقة المجاورة ونحن نتسلى بالقشور»، معتبراً «أن من غير المسموح ان يبقى لبنان معلّقا بحبال الهواء والتاريخ سيلعننا اذا استمررنا بهذا المنحى (...) نحن غائبون عن الوعي ونتسلى بجنس الملائكة ونترك البلد لمهب الريح ويجب وقف الانتحار الذي بدأ يتخذ منحاً خطير جداً».
مشاركة :