محمد علي نور الدين عيتاني، أستاذ رياضيات في مدارس البقاع الغربي، أصيب مع بداية الحرب اللبنانية بمرض نفسي أثّر في قواه العقلية، فأقدم على ارتكاب جريمة قتل، وحُكم بالحبس سنة واحدة كونه كان في حالة «عته» وقت ارتكاب الجريمة. لكنّ هذه السنة امتدت لتصبح 38 سنة، ليكون محمد السجين الأقدم في السجون اللبنانية، والسبب أنّه وُضع في مأوى احترازي لحين «شفائه»، وكان من المفترض بمحكمة الجنايات أن تكلّف طبيباً اختصاصياً بالحالات النفسية للكشف على السجين لمعرفة إذا تحسّنت حالته النفسية، لكنّ ذلك لم يحصل. محمد لا يزال على قيد الحياة، لكن آخرين شاركوه العذابات الأخرى لم يستطيعوا الانتظار لكي ينتهي جحيمهم اليومي. فالسجين المرحوم حجار آغا، الذي توفي العام الماضي، كان أعفي على غرار محمد من العقاب لارتكابه جريمة قتل لكونه فاقداً للعقل، فوضع في المأوى الاحترازي الى حين شفائه. وقد مضت 20 عاماً على دخوله المأوى من دون أن يلتفت أحد إلى وضعه حتّى أصيب بجلطة دماغية أفقدته القدرة على الحراك، فتوفي في السجن من دون أن يمدّ له أحد يد العون. قصّتان فيهما الكثير من الحزن تعكسان واقع المرضى النفسيين المسجونين في لبنان. فقانون العقوبات الصادر في عام 1943، نصّ على أنّ هؤلاء السجناء يتمّ حجزهم في مأوى احترازي لحين ثبوت شفائهم بقرار تصدره المحكمة التي قضت بالحجز. لكن، هل يمكن مريضاً نفسياً أن يُشفى في شكل كامل؟ الأكيد، أنّ وضعه يمكن أن يستقرّ من خلال العلاج والمتابعة، لكنّ الشفاء الكامل بالتطبيق الحرفي للنصّ لا يُعتبر إلا عائقاً أمام حرية المسجونين، مع رفض المحاكم التقارير الطبية التي تفيد باستقرار حالة السجناء النفسية. والنتيجة المتوقعة، أنّ السجناء ذوي الأمراض العقلية أو النفسية مرتكبي الجرائم، يظلّون في المأوى الاحترازي حتّى وفاتهم. تحرّك مدني لتعديل القانون في زحمة الملفات العالقة في لبنان، لم يكن من المتوقع أن يتمّ فتح النقاش حول قضية المرضى النفسيين في السجون على رغم أهميتها الكبرى، إلا أنّ التحرّكات المدنية توقظ من فترة إلى أخرى الضمير الإنساني وتذكّر بوجود أشخاص مظلومين لا أحد يلتفت إليهم. وهذا تماماً ما قام به المركز اللبناني للعلاج بالدراما «كتارسيس» الناشط في السجون اللبنانية، مع عزم مديرته التنفيذية زينة دكاش على تغيير الواقع المسلّم به. فدكاش وخلال عملها منذ نحو عشر سنوات في السجون، التفتت الى فئة السجناء المرضى النفسيين الذين صدرت في حقهم أحكام بوضعهم في السجن الاحترازي، ما حمّسها للبحث والتدقيق ومقابلة المسؤولين لتتأكد أخيراً أنّ أمام هؤلاء السجناء طريقاً مسدوداً. وقد تكاملت جهودها مع رئيس لجنة خفض العقوبات في وزارة العدل القاضي حمزة شرف الدين، للخروج بدراسة واضحة وشاملة حول الموضوع، تمّت بدعم من الاتحاد الأوروبي وبالتعاون مع وزارة الداخلية والبلديات ووزارة العدل، استتبعت باقتراح قانون لتعديل بعض مواد قانوني العقوبات وأصول المحاكمات الجزائية المتعلّقة بالمرضى العقليين والنفسيين مرتكبي الجرائم. وقد وقّع على الاقتراح 10 نواب، وسجّل في قلم مجلس النواب ليسلك طريقه نحو الإقرار، بالتزامن مع اقتراح آخر يتعلّق بتعديل بعض مواد قانون العقوبات لإيجاد حلّ لإشكالية إطلاق سراح المحكومين بالمؤبّد. وفي هذا السياق، تشير دكاش إلى أنّه بعد التدقيق والأبحاث، تبيّن في موضوع السجناء الذين يعانون من أمراض نفسية، أنّ القانون الذي وُضع عام 1943 يستخدم عبارات مثل «مجنون»، «معتوه»، «ممسوس». ولم تستبدل بعد بعبارة مريض نفسي أو عصبي. ووفق المادتين 231 و234، فإنّ «المجنون» يبقى في مأوى احترازي إلى حين الشفاء الذي لا يتمّ، إنما يمكن أن يستقرّ وضع المريض. لذا، فإنّ التعديل الأساس يتركز على استبدال العبارات الآنفة ذكرها واستخدام عبارة «مرض نفسي أو عقلي». ويتكامل ذلك مع اقتراح آخر بتكليف الأطباء النفسيين المعينين من وزارة العدل، والذين يتقاضون أجرهم على مهام يوم أو يومين في الأسبوع، متابعة هذه الحالات. واقع يحتاج تغييراً يكتسب اقتراح القانون المتعلّق بالمرضى النفسيين السجناء في لبنان أهمية إضافية بسبب الاهتمام القضائي الكبير به، خصوصاً من القاضي شرف الدين الذي يجد أنّ هناك مبرّرات أساسية للاقتراح، أبرزها قِدَم التشريعات اللبنانية خصوصاً قانون العقوبات الذي تعود أحكامه إلى عام 1943، وتتضمن عبارات لم تعد مقبولة كالمجنون والمعتوه والممسوس، وعدم تطرّقه إلى مرحلة ما قبل صدور الحكم، كمسألة الأهلية للمحاكمة وفرضية إصابة السجين بمرض عقلي أو نفسي في المرحلة الممتدة ما بين تاريخ التوقيف وتاريخ صدور الحكم. كما أنّه ووفق المعطيات العلمية، فمن المعروف أنّه مع تطور الطب النفسي لا يجري العمل عادة على شفاء المرض النفسي كما هو منصوص في قانون العقوبات، بل تتمّ متابعته تماماً كما أي مرض جسدي مزمن آخر. ويلفت شرف الدين إلى إشكالية أخرى ترتبط بالمأوى الاحترازي، حيث يُفترض أن يوضع المجرم المصاب بمرض عقلي أو نفسي، كونه لا يوجد لغاية الآن مأوى للنساء. أما المأوى الوحيد للرجال من أصل 21 سجناً في لبنان، فموجود في السجن المركزي في رومية، وهو عبارة عن سجن عادي غير مجهّز طبياً. وحاول شرف الدين جمع هذه المعطيات وغيرها الكثير في دراسة أصدرها بالتعاون مع «كتارسيس»، وشكّلت حجر الأساس لاقتراح القانون الذي أصبح في عهدة مجلس النواب ولجانه، على أمل إقراره قريباً لإعادة الحرية إلى فئة من السجناء حُرمت منها طويلاً ومن دون مبرّر.
مشاركة :