أحلام صغيرة جداً تنتابنا أحياناً يعز علينا أن نحققها بسهولة: فنجان قهوة رائق في مكان بلا ضوضاء ولا تداعيات سوداء أو خوف دفين من مفاجأة غير سارة، استرخاء خالٍ من أي كولسترول إخباري على شرفة مشمسة، استيقاظ تلقائي لذيذ من فراش دافئ من دون أي «منبهات» أو أجراس مرعبة لا تشعر معها برغبة حارقة في المضي قُدماً في النوم، مرور يوم واحد دون أي رغبة في إزالة تجعداته الفجائية أو المخطط لها سواء تخطيطاً ذاتياً أو عبر تدخل خارجي، حدث لا تكتنفه موسيقى تصويرية مرعبة تتشكل من خليط عجيب من المحرمات والخوف من العقاب أو المضاعفات المؤجلة أو اللوم المحتمل على خلفية خرق نظام العادات والتقاليد المتبعة! أحلام صغيرة جداً، تتركز كلها حول شهيق سلس يدخل الرئتين ويخرج دون نشيج أو تشنج، مع إغماضة عين لذيذة تأخذك إلى شاطئ بعيد لا يقطعه غير حوار العصافير الذي يضج بالرعونة مع معزوفة الأمواج البحرية الرتيبة، حلم قديم يقفز فجأة إلى الذهن كلما تحولت الأحداث حولك إلى سيول طينية جارفة، تصرخ من خلالها: متى ترتاح؟ فتأتيك أصوات مكتظة بالسخرية لا تميز من بينها إلا ضجيجاً مبهماً أزلياً يحول المشهد إلى فيلم رعب يحبس الأنفاس، تتمنى معه أن تخرج من قاعة السينما المفترضة وترتمي في ضجيج الشوارع! أحلام صغيرة بحجم متناهٍ في الصغر، تتحول إلى مستحيلات قد تبعث على السخرية، كلنا قد يتوق إليها، ولكنه قد لا يبوح بها حتى لنفسه، فنحن أشبه ما نكون بقطع صغيرة في آلة عظيمة تدور وندور معها، ولا يتوقف هذا الدوران إلا حين نختلي بأنفسنا في لحظات قليلة، «يروق» فيها ماؤنا العكر، فتترسب الشوائب أو تكاد، وتبدو صورتنا المخيفة لهاثاً سرمدياً مع إيقاع دائم غير منتظم، وسعي حثيث إلى اللامكان! بعضنا حل المشكلة فاستقال من الوعي، واستسلم للاشيء، ملقياً ذاته في بئر بلا قرار، ولّد شعوراً دائماً بالتيه، وآخرون وجدوا أنفسهم في قلب العاصفة، يدورون معها ويحاولون أن يديرونها وأنى لهم ذلك، فئة ثالثة تسرق لحظات من التأمل والاختلاء بالذات لمراجعة حسابات متراكمة تحتاج لعالم فيزياء كي يفك تشابكها، وآخرون وآخرون لا يدرون أنهم لا يدرون ما الحكاية، بل هم وقود الحكاية ذاتها، وقلة فقط يحاولون التوقف عن الركض لوهلة، فيشعرون أنهم «تأخروا» عن الركب فيواصلون الركض، على أمل أن يجدوا فرصة أخرى للتوقف والتأمل، فيتحول الأمل إلى حلم دائم بذلك النفس الأزلي المأمول! بعض الشعوب المتقدمة اشتقت طريقة أخرى للحياة: فصل دائم بين فقرات الحياة، ثمة وقت للعمل وآخر للهو، وآخر للتخطيط، اللعنة تكمن في التخطيط، من منا يخطط لحياته في هذا الشرق المملوء بالغرائب والأساطير والأحلام الصغيرة المستحيلة؟ وأخيراً، قبل أن يشعر القارئ بالدوار من القراءة سأقول له (ولي أيضاً): افعل ما تشعر أنك بحاجة لفعله، وستجد نفسك!
مشاركة :