بعد سنوات من الاستقرار، بات الشرخ السياسي القائم في إقليم كردستان وتداعياته على وحدة الموقف الكردي في بغداد، يهدد مسار خطوات إعلان الدولة، في ظل الصراع الدائر حول الإدارة وطبيعة نظام الحكم. ويعيش الإقليم الكردي منذ نحو عام أزمة سياسية وسط حالة من الاستقطاب بين الحزب الديموقراطي بزعامة مسعود بارزاني صاحب النفوذ الأكبر في محافظتي دهوك وأربيل، وحليفه السابق حزب «الاتحاد الوطني» بزعامة جلال طالباني الذي يشكل إلى جانب حركة «التغيير» و«الجماعة الإسلامية» و«الاتحاد الإسلامي» جبهة عرفت بـ «الأطراف الأربعة» لتقليص صلاحيات الرئيس والانتقال إلى نظام حكم برلماني. وتعثرت المفاوضات التي رافقتها وساطات محلية ودولية للتوصل إلى حل، إثر رفض حزب بارزاني السماح لرئيس البرلمان عن حركة «التغيير» يوسف محمد العودة بمزاولة مهماته، بعد اتهامه «بعقد جلسة لتقليص صلاحيات الرئيس خارج التوافقات بناء على رغبة خارجية». ورافقت الأزمة السياسية تقاطعات حول «توقيت» الدعوة إلى إجراء استفتاء عام «غير ملزم» حول تقرير المصير الذي يضعه «الديموقراطي» على رأس الأولويات، لكن «الأطراف الأربعة» ترى في الطرح «ورقة ضغط سياسي للقفز على الأزمتين السياسية والاقتصادية»، وتؤكد أن «الاستقلال لا يقرره شخص أو جهة»، ما يتطلب تهيئة أرضية محلية ودولية ملائمة. وأوضح القيادي في «الجماعة الإسلامية» زانا روستايي لـ «الحياة» أن «الانقسام والتضارب الحاصلين في آلية إدارة الملفات الإقليمية والدولية، يشكلان ضربة في مسار طموحات الإقليم، وكل طرف يطرح رأياً متناقضاً في مطلب الاستقلال من حيث التوقيت والشروط والظرف، والبعض يقول أن الدول الغربية أكدت صراحة أنها تؤيد بقاء العراق موحداً، أي أنها ترفض في شكل غير مباشر استقلال كردستان»، وأضاف أن «الحزبين يحتكران إدارة ملف العلاقات الخارجية للإقليم ولديهما تصور كامل حول المواقف الدولية إزاء تقرير المصير، لكنهما غير قادرين على طمأنة الشعب الكردي وتوفير ضمانات في عدم الدخول في مشاكل بعد مرحلة إعلان الدولة». وأوضح روستايي أن «التحالفات الدولية في المنطقة ليست غائبة وتؤثر في الإقليم حتماً، وإذا كنا اليوم نعيش حالاً من التزمّت في إدارة الحكم، فإن إدارة الدولة المستقبلية على هذا المنوال سيصبح حكامها علة على شعبهم والمنطقة». وإزاء تبعات الانقسام الكردي على صعيد عقد الحزبين تحالفات متناقضة مع القوى السياسية العراقية، قال أن «الاتحاد الوطني لم يخفِ رغبته بتقوية علاقة الكرد مع الحكومة الاتحادية، وأن الوقت غير مناسب للحديث عن الاستقلال، سواء كان موقفه عن قناعة أم أنه ناجم عن ضغط إيراني. في المقابل، فإن الديموقراطي رغم ترويجه لمطلب تنظيم استفتاء، فإنه غير جدي من النواحي الفعلية ويحاول استخدامه كورقة لإحراج الأطراف وحصرها في زاوية وتحميلها المسؤولية، في حين لم يقم بأي إجراء ملموس سوى الحديث في وسائل الإعلام». ويحذّر مراقبون أكراد من أن امتداد انقسام القوى الكردية على صعيد العلاقة مع بغداد يهدد «المصلحة القومية للشعب الكردي»، مع بروز بوادر تشكيل تحالفات مستقبلية قبل موعد الانتخابات المقبلة، والتي من شأنها تشتيت وحدة الأطراف الكردية بين القوى السنّية والشيعية، في أعقاب رفض الكتل الكردية الاستجابة لدعوات «الديموقراطي» إلى التصويت ضد إقالة وزير المالية هوشيار زيباري. وفد من حزب طالباني برئاسة ملا بختيار أجرى أخيراً جولة ثانية من المشاورات مع القوى العراقية في بغداد، ما أثار حفيظة مسؤولين في «الديموقراطي» على اعتبار أن الخطوة تشكل قفزاً على المؤسسات الرسمية للإقليم والتمثيل الكردي في الحكومة الاتحادية، أعقبتها زيارة قام بها رئيس حكومة إقليم كردستان نيجيرفان بارزاني إلى بغداد أجرى خلالها جولة محادثات مع رئيس الحكومة الاتحادية حيدر العبادي في شأن الخلافات العالقة وأهمها الملف النفطي، فضلاً عن لقائه زعماء القوى السياسية العراقية وقادتها، والسفير الأميركي في العراق. وقال بختيار في اختتام مشاوراته أن «الحل للمشاكل السياسية والاقتصادية يكمن الآن في بغداد»، وحول الاتهامات الموجهة ضد حزبه بإجراء اتفاقات خارج الإجماع الكردي قال: «نحن لا نقبل على أنفسنا وعلى أي طرف كان بعقد اتفاقات منفردة مع بغداد، ونؤكد أن وفدنا كان يمثل الإقليم وليس الحزب فقط، إذ بحثنا حق الكرد في الاستقلال، وأكد لنا العبادي أنه لا يعارض حق الشعوب في تقرير مصيرها». لكنه كشف لاحقاً في تصريحات صحافية أن «28 دولة أوروبية تعارض حالياً مطلب الاستقلال». كما دعا سعدي بيره الذي كان ضمن وفد «الاتحاد»، القوى الكردية إلى «اتخاذ القرار فيما إذا كانت ترغب بالانفصال أو البقاء ضمن العراق، والعبادي مستعد للاستماع إليها»، في تشديد على وجود تباين في مواقف القوى الكردية. في المقابل، قال النائب عن كتلة «الديموقراطي» في برلمان الإقليم شوان أحمد لـ «الحياة» أن «مواقف الدول الغربية فسرت في شكل خاطئ، هي ليست ضد استقلال الإقليم، لكن لديها أولويات وأبرزها الحرب على تنظيم داعش والقضاء عليه، ونحن متفقون بهذا الصدد، لكن تتوافر اليوم أرضية مناسبة للعمل على تنظيم استفتاء، والمؤكد أن الدول الغربية لا تمانع». واستدرك: «لا يخفى أن هناك اختلافاً في الرؤى داخل البيت الكردي، والبعض يرغب في إعادة تحسين العلاقة مع بغداد، وقناعتنا في الحزب الديموقراطي أنه لم يعد في الإمكان بقاء العراق موحداً، هناك صراع طائفي، وقد قطعت بغداد قوت شعب الإقليم وحرمت قوات البيشمركة من استحقاقاتها المالية واللوجيستية، ولم تنفّذ المادة 140 مــــن الدستور حول المناطق المتنازع عليها، ولا يوجد أمل بإعادة التطبيع مع العراق سوى الانفصال عبر التفاهم برضا الطرفين بعيداً من العنف والتوتر». وشدد أحمد على أن «خوض الإخوة في الاتحاد مشاورات في بغـــداد من طرف واحد لن يفضي إلى نتائج ملموسة، ونحذّر من تبعات هذا الانقسام». وكان بارزاني جدد في ذكرى تأسيس حزبه أواسط الشهر الماضي الدعوة إلى الانفصال، وقال أن «السبيل الوحيد لإنهاء معاناة الشعب الكردي يكمن في الانفصال عن العراق»، قابلتها تصريحات مضادة أدلى بها رئيس الجمهورية فؤاد معصوم وهو قيادي وأحد مؤسسي حزب طالباني، وقال في مقابلة لصحيفة الحزب المركزية «كردستاني نوي» أن «على الكرد أن تكون لهم رؤية واضحة لتشمل الدولة كل المناطق التي يضحي الشعب الكردي منذ عقود لتحريرها، وأن انسحاب الكرد من بغداد والتوجه إلى إعلان دولتهم ليسا سهلين، لأن هذا المنطق لن تقبله أي دولة، وسيفرز مصائب جديدة على المنطقة». وتساءل معصوم عن «شكل الدولة المستقبلية وحدودها، هل ستقتصر على حدود المحافظات الكردية الأربع الحالية، أربيل، السليمانية، دهوك، حلبجة؟ أم ستضم المناطق المتنازع عليها مع بغداد؟»، وشدد على أنه «لا يوجد مواطن كردي لا يريد تحقيق هذا الحلم، لكنه يواجه سؤال عما هي طبيعة العمل وآليته لإنشاء دولته؟ إذ إن إنشاء الدولة ليس رغبة ذاتية يمكن تحقيقها بعمل فردي». وحـــول رؤية «الاتحاد الإسلامي»، شدد النائب عن كتلة الحزب في برلمان الإقليم حاجــــي كاروان على أن «الاستقلال حلم كل كــردي، وهو ليس مشروعاً لأي حزب أو قائد، لكن الخلاف هو حول التوقيت، ولأسباب عـــدة، منها الموقف الدولي، والوضع الأمني، وكذلك الوضع الداخلي الكردي، ما يدفـــع ببعــض الأطراف إلى عدم الاستعجال، لكنني أؤيد الإسراع في إعلان الدولة وعدم التحجج بهذه المبررات، وبعكسه لن يتحقق هذا الحلم التاريخي، والنقطة الأهم قبل ذلك هو توحيد البيت الكردي وحسم الخلافات حول الملفات السياسية والإدارية والأمنية»، وأردف لـ «الحياة»، «أقدّر رأي بارزاني، لكن عليه أن يجمع ويوحد الأطراف كخطوة رئيسية قبل إعلان الدولة، وللأسف أصبح المطلب أداة للمزايدات السياسية، والتهرُّب من أزمات الإقليم، وأصبح يستخدم كورقة ضغط على بغداد ودول إقليمية». وحذر كاروان من أن «الإقليم يواجه أخطاراً ومستقبلاً مجهولاً، في ظل ممارسة طرفي الخلافات الرئيسيين سياسة التعنّت والغرور ورفض الآخر، وحتى على مستوى شخص زعيم حركة «التغيير» نوشيروان ومصطفى وبارزاني، في حين لدينا حكومة مشلولة مدينة بـ30 بليون دولار، غير قادرة على دفع رواتب موظفيها، في ظل أزمات اقتصادية وسياسية»، وحذر من أن «دولاً إقليمية ومنها إيران، لها اليد الطولى في عدم استقرار الإقليم، وإذا ما استمر الاعتماد على هذه الدول وأخذ التوجيهات منها، فإن الأوضاع ستتجه نحو الأسوأ». وأقر محافظ أربيل عن الحزب «الديموقراطي» نوزاد هادي في مقابلة مع شبكة «سي أن أن» الأميركية، بأن «الاضطرابات التي تشهدها المنطقة قد تؤجل موعد إعلان الاستقلال. نريد أن نطمئن على المستقبل، الاستفتاء قد يحصل ويؤجل الالتزام به، وذلك يعتمد على السياسة وأوضاعها في المنطقة».
مشاركة :