ثمة مؤشرات في إيران تذهب لأن تتطابق الأحوال الداخلية مع ما كانت عليه في صيف عام 2005، وقتها هيمن التيار المُتشدد على كامل مؤسسات الدولة، وبالذات تلك التي كانت يستخدمها «لُب النِظام» كواجهة في ترتيب علاقاته الاقتصادية والديبلوماسية مع العالم، كرئاسة الجمهورية والحكومة. وكان صعود أحمدي نجاد كخلفٍ لمحمد خاتمي، وتحطيم التيار «المُعتدل نسبياً» المُتمثل بهاشمي رفسنجاني، إشارة الى أن المُرشد الأعلى عبر مؤسساته المُباشرة بات يتحكم بالدولة في شكلٍ فعلي ومُباشر. إن أحداث ما بعد الاتفاق النووي، كالتجارب الصاروخية الباليستية الإيرانية التي لم تتوقف مُنذ ذلك الوقت، وتصريحات المُرشد الأعلى الأخيرة الداعية الى تعزيز الترسانة الهجومية الإيرانية على حِساب نظيرتها الدفاعية، وإعلان أحمدي نجاد عن ترشيح نفسه في انتخابات السنة المقبلة، ودعوة الجنرال محمد رضا نقدي قائد منظمة «تعبئة المستضعفين» (الباسيج) إلى استبعاد «المرتبطين بقادة الفتنة والمتفائلين بأميركا»، من انتخابات الرئاسة المرتقبة في أيار (مايو) المُقبل، والاستماتة في الحصول على نظام «أس 300» الصاروخي من روسيا، وغيرها الكثير من المؤشرات، تدفع كلها الجمهور الإيراني واللاعبين الإقليميين والدوليين للقبول بـ «النكوص» الإيراني عما حدث قبل عشر سنوات. مُنذ عام 1979 كان ثمة تيار سياسي متمحور حول «المُرشد الأعلى» وهو سعى مُنذ ذلك الوقت إلى القضاء على أو تحطيم القوى السياسية المناوئة لهذا المركز السياسي. بدأ بتحطيم القوى السياسية الإيرانية غير الدينية، مثل تيار الحزب الشيوعي الإيراني «حزب تودة»، والقوى القومية الإيرانية، الكُردية والعربية، وحتى القومية الفارسية التي بقيت موالية للشاه في شكل ما. في مرحلة الحرب الإيرانية العراقية (1980-1988) وحين تأجلت في شكل نسبي كل القضايا الداخلية الإيرانية، فإن هذا التيار استطاع فرض هيمنته على مناحي الحياة العامة الإيرانية، بالذات منها السياسية والثقافية والإعلامية، وفرض نفسه كتيار الحُكم في البلاد. وتراكم ذلك أثناء سنوات حكُم الرئيس هاشمي رفسنجاني (1989-1997) بُعيد استحواذ المُرشد الجديد علي خامنئي على مركز «المُرشد الأعلى» 1989، ونهاية الحرب الإيرانية العراقية. لكن، مُقابل ذلك، فإن مسارين مُتباينين كانا ينموان في إيران: من جِهة كان النفوذ الإقليمي الإيراني يزداد توسعاً، خصوصاً في حيز الاستثمار في الجماعات المُسلحة والميليشيات الإقليمية الموالية. ومن جِهة أخرى حضور أجيال من الإيرانيين الأكثر تعليماً و»حداثة» ورغبة في احداث التغيير على كل المُستويات، خصوصاً السياسية، ولأنه لم يكن مسموحاً لها أن تُعبر وتحضر في المجال السياسي كما ترغب، لذا مالت لأن توالي التيار الأكثر «انفتاحاً» في شكل نسبي، ضمن نُخبة الحُكم. كان صعود الرئيس محمد خاتمي عام 1997 تعبيراً عن نمو ذلك التيار «الإصلاحي» وعدم القُدرة على ضبطه خارج مؤسسات الحُكم. لكن سنوات حُكم خاتمي (1997-2005) أثبتت عجز هذا التيار عن إحداث تغيرات حقيقية في بنية الحُكم في البِلاد وهويته. كانت الانتخابات الرئاسية عامي 2005، 2009 نقطتي فصل لرسم خطوط الصِراع بين الطرفين. وكان لـ «انتصار» التيار المُحافظ، مُناسبة لأن يوسع هذا التيار من هيمنته على قِطاعات الحياة العامة، العسكرية والسياسية والقضائية والاقتصادية والتعليمية والأمنية...الخ. في شكلٍ تحولت إيران معه إلى نِظام حُكم توتاليتاري تقليدي. حيث وصل حجم التناقضات بين نُخبة الحُكم والمُجتمع الإيرانية درجات مُتفاقمة، كانت «الثورة الخضراء - 2009» عقِب الانتخابات الرئاسية مؤشراً إلى ذلك؛ وحيث أدت بنُخبة الحُكم المركزية لأن تقف على الحياد في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، والتي صعد معها التيار المُعتدل بقيادة حسن روحاني، وبُمساند وتحالف واضح مع الزُعماء السياسيين: هامشي رفسنجاني ومحمد خاتمي ومهدي كروبي. مُنذ انتخاب حسن روحاني رئيساً لإيران؛ يبدو واضحاً أن «نُخبة» الحُكم البيروقراطية الإيرانية باتت أكثر قُرباً من التيار الإصلاحي، بعدما بقي التيار «المُتشدد» يتمدد لسنوات، ويُسيطر على مؤسسات الحُكم، بالضبطِ منذُ انتخاب أحمدي نجاد رئيساً. لا يعني ذلك بأي شكل أن هذه النُخبة المُعتدلة تملكُ رؤية ايديولوجية ومشروعاً سياسياً تخالف تماماً نظراءها المُتشددين، فهي أيضاً تنحدر من نفس «طبقة الحُكم» وتعي تماماً «قواعد لعبة الحُكم» في إيران، وتؤمن بها وتنسجم معها. لكنها بالمُقابل تتميز بطرائق وأدوات تنفيذ ومُمارسة للسياسات المركزية للبِلاد. تعزز ذلك تماماً عبر قُدرة هذا التيار المعتدل على إدارة الملف النووي الإيراني، وحصوله على اتفاق استثنائي من القوى الكُبرى، ومن ثم «انتصاره» النوعي في الانتخابات البرلمانية وانتخابات مجلس الخُبراء الأخيرة، وباتت نُخبة هذا التيار وكأنها تقود تحولاً نوعياً، قد يؤدي إلى سيطرتها على مراكز الحُكم ومؤسسات السُلطة في البِلاد. لكن، ثمة مستويان من «التغيرات» طاولا نُخبة الحُكم الإيرانية، يتعلق الأول بمؤسسات الإدارة السياسية الرسمية الراهنة، بالذات رئاسة الجمهورية والبرلمان والوزرات، والتي يُمكن لها أن تُغير وتُحدد بعض أبعاد السلوكيات السياسية الإيرانية، وشكل وطبيعة السلوك الإيراني تجاه دول المنطقة، ومنها العِراق. المستوى الآخر يتعلق بالقوى والمؤسسات السياسية المركزية «المُرشد الأعلى وصلاحياته والمؤسسات التابعة له دستورياً» والعسكرية، كمركز المُرشد الأعلى، وقيادات الجيش والحرس الثوري، والأجهزة الاقتصادية والاستخباراتية التي تدور في فُلكها. حيث «السُلطة الحقيقية» لهذه المراكز والمؤسسات تتفوق في قوتها وقُدرتها الدستورية والموضوعية على نظيراتها السابقة. وحيث أن هذه المؤسسات ما زالت تحت هيمنة القوى السياسية «التقليدية»، التي تُنعت بالتيار المُحافظ. صحيح أنه وفق الدستور الإيراني والمراكز الفعلية لصناعة السياسات والإستراتيجية الإيرانية، فإن «مُرشد الثورة» هو الصانع الوحيد والمركزي لهذه التوجهات، ولا يُمكن لأي تيار سياسي صاعد في مراكز الحُكم الأُخرى، كرئاسة الجمهورية والغالبية البرلمانية، إعادة رسم الإستراتيجية، لكن ثمة استثناء في راهن التوازنات الإيرانية، بحيث تستطيع هذه «النُخبة» المُعتدلة الصاعدة أن تُغير من استراتيجية التوجهات الإيرانية في شكل نسبي: يتعلق الأمر الأول بما سيدور من صراعٍ بين «خُلفاء» التيار المُحافظ لحظة غياب المُرشد المُتوقعة، فخلو منصب المُرشد الأعلى علي خامنئي سيسعر التصارع بين مُختلف القوى الموالية له، وهو ما سيحول التيار المُعتدل إلى مؤثر فعلي في التوازنات. الأمر الآخر يتعلق بالاتفاق النووي الأخير مع القوى الكُبرى، والذي يعتبر بمثابة ضمانة لعدم تحطيم القوى «المُعتدلة» من تيارات الحُكم المُتشددة، كما فعلت مع التيار الإصلاحي قبل سنوات. هذا العاملان يدفعان التيارات السياسية الإيرانية المُتشددة، المُتمثلة بتحالف العسكر ورجال المُرشد والصناعات العسكرية، للإسراع في إنهاء وظيفة التيار الإصلاحي، تلك الوظيفة التي امتدت لأربع سنوات فقط. * كاتب سوري
مشاركة :