وفيما وصف المراقبون عهد الملك عبدالله بالعهد الذهبي بالنسبة للبرماويين، لما حصل لهم ولأسرهم من ميزات وزيادة سكينة وطمأنينة؛ فقد استمر الملك رحمه الله في نصرة قضيتهم في المحافل الدولية وفي أروقة مؤسسات الأمم المتحدة، ودعم اللاجئين منهم في دول الجوار بالغذاء والكساء والدواء وفرص التعليم في الجامعات السعودية. وكانت المملكة في كل الظروف هي النصير الأول، وهي من تعمل سرّاً وجهراً بواسطة ممثليها الدبلوماسيين على تدويل القضية، ومنحها الزخم الملائم، لمناقشتها على مستوى المنظمات العالمية، وممارسة الضغط على ميانمار «بورما» للتخلي عن سياسة العنصرية والقهر. وفي الوقت ذاته قامت منظمة التعاون الإسلامية بأدوار مختلفة لنصرة القضية، وكان من أهمها: تأسيس كيان عالمي بأمل جمع المنظمات العاملة للنصرة، باسم اتحاد الروهنجيا أركان (ARU). وكانت مجموعة الاتصال الوزاري لمنظمة التعاون الإسلامي في الدورة (69) للجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك- قد عقدت اجتماعاً لمناقشة قضية مسلمي أركان، للوصول إلى حلول استراتيجية تضمن إعادة الحقوق المدنية والإنسانية لهم. واستمر مندوب المملكة الدائم لدى الأمم المتحدة في إيصال صوت القضية إلى أسماع العالم، في كل محفل دون يأس أو ملل. وفي فبراير 2009م ساعد البحارة الإندونيسيون «الأتشيون» (190) نفساً من مسلمي أركان، في مضيق ملقا بعد أن ظلوا عالقين لـ (21) يوماً في عرض البحر، أثناء فرارهم بأنفسهم من بطش السلطات البوذية في بورما إلى الجارة تايلاند، التي قامت هي الأخرى بدفعهم نحو الأمواج الهائجة دون إيواء. ونظراً لاشتداد مأساة مسلمي بورما في إقليم أركان خلال الفترة من 2005م وحتى 2010م، فقد تمت مناقشة قضية الروهنجيا في الدورة الـ (15) لمنظمة حقوق الإنسان في جنيف في أكتوبر2010م، وكان من توصياتها «حث المجتمع الدولي على إنشاء لجنة للتحقيق في الجرائم ضد الإنسانية التي يرتكبها النظام البورمي ضد الروهنجيا..». وفي يونيو 2012م حلّت الكارثة التي هزت ضمير الإنسانية، حين قامت عصابات بوذية بقتل عشرة من الدعاة المسلمين في ولاية أركان بطريقة شنيعة دون خطيئة تذكر. وسرت صور الإجرام البوذي كالبرق من خلال التواصل الاجتماعي، لتشعل النفوس بمشاعر عارمة من الغضب والقهر مما يجري. اندلعت إثرها مسيرات منددة بسياسة القمع البورمية، إذْ جوبهت برد عنيف من قبل الجيش البورمي، راح ضحيته آنذاك حوالي 2000 مسلم قتلاً وحرقاً وغرقاً، فيما نزح 120.000 نسمة من الرجال والنساء والذراري إلى مخيمات بالية تذروها الرياح. وتجددت حينها حملات مناهضة للإسلام على يد رابطة الرهبان البوذيين (969)، في مختلف أقاليم بورما، وحُشد لها التأييد الرسمي والشعبي والتعبئة المسلحة لطرد المسلمين من الديار بزعامة الراهب «ويراثو»، الذي أعلن «أن الثقافة البوذية في خطر إذا استمر الإسلام في البلاد»، مستغلّاً تصريح رئيس ميانمار «ثين سين»، «بأنه يجب طرد المسلمين من البلاد، وإرسالهم إلى مخيمات تديرها الأمم المتحدة». وكان الملك عبدالله يتابع عن كثب كل ما يجري لإخوانه وأبنائه هناك، ويحترق قلبه أسى وحسرة عليهم، فما كان منه إلا أن أعلن عن تبرعٍ سخي قيمته خمسون مليون دولار كمساعدة عاجلة للمتضررين من العنف والمهجرين إلى مخيمات اللجوء. كما سارع إلى دعوة ملوك ورؤساء الدول الإسلامية إلى قمة استثنائية للتضامن الإسلامي في رحاب مكة المكرمة، وفي أيام مباركات من العشر الأواخر من الشهر الفضيل لعام 1433هـ، حيث شرف الزمان والمكان. جاءت القمة متواكبة مع الظروف العصيبة والأحداث الأليمة التي مرت بها الأمة، وسط ترقب هذا الشعب المسلم الذي يرزح تحت نير الظلم والاضطهاد منذ حوالي قرن من الزمان، ونسائم الأمل تحلق فوق رؤوسهم نحو الخلاص، وحالهم «ربَّنا أخْرِجنا من هذه القرية الظالم أهلها، واجعل لنا من لدنك وليّاً واجعل لنا من لدنك نصيراً». وخرج المؤتمرون برعاية المليك؛ بتوصيات محورية؛ تلخصت في المطالبة بإعادة الحقوق المدنية إليهم، واستنكار التهميش التاريخي لهم، وطلب إيقاف سياسة التنكيل ضدهم، واعتماد بعثة لتقصي الحقائق، وتشكيل فريق اتصال من عدة وزارات للخارجية، وطلب تعاون سلطات ميانمار للسماح بوصول المساعدات الإنسانية للمتضررين. إن المتأمل في سِفْر مسيرة الملك عبدالله الإنسانية والتاريخية تجاه أبنائه البرماويين، ليعجز عن إحصاء فصول مآثره ووقفاته، وكلها تعبر عن انتمائه العظيم لهذه الأمة بوجدانه وفعله قبل قوله، ونيته الصادقة لنصرة الإسلام وقضايا أهله. وفي الساعات الأولى من يوم الجمعة 3 ربيع الثاني 1436هـ نعى الديوان الملكي خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز حيث وافاه الأجل بعد كفاح طويل وخير وفير لإسعاد الإنسان. حينها خرج البرماويون يذرفون دموع الأحزان، ويكابدون أسى الوداع، ولوعة الفراق، وقد عادت بهم الذكريات إلى أيامه الخوالي. فقد كان الفقيد الكبير على علاقة وطيدة بالبسطاء والضعفاء، ولقد أجرى أنهراً من الخير ينتظر ذخره في الحياة الأخرى بإذن مولاه، ولئن عزَّ اللقاء فسيظل حبل الدعاء سلوة وعزاءً ووصلاً عبر الأجيال المتلاحقة بإذن الله، وهو من أوصى وأكد «لا تنسوني من دعائكم». لن ننساك أبداً أبا متعب، رحمك الله وبرَّد في رياض الجنات مأواك، وجمعنا بك في مستقر رحمته، وعنوان فضله، حيث تفيض المكارم الإلهية هناك.
مشاركة :