أين أصابت المعارضة في خطّتها للانتقال السياسي؟

  • 9/13/2016
  • 00:00
  • 25
  • 0
  • 0
news-picture

أثارت رؤية المعارضة السورية المتعلّقة بالإطار التنفيذي للعملية السياسية الانتقالية، والتي قدّمتها مؤخّراً في اجتماع الدول «الصديقة» في لندن، ردود فعل كثيرة بين مؤيّدة ومعارضة، متحمّسة ومتشكّكة، وهذا أمر طبيعي إزاء حركة سياسية تواجه تعقيدات ومداخلات وتحديات كبيرة وصعبة، سيما أنها خارج أرضها، وأنها لم تتبلور إلى الدرجة اللازمة في كيانات حزبية مستقرة، وتعاني من اضطراب خطاباتها السياسية. مع كل ذلك، أي بغضّ النظر عن الملاحظات والثغرات، فإن ما يلفت الانتباه في هذه الرؤية ما تضمنته من مرتكزات للحل السياسي، ومن مبادئ تأسيسية لسورية المستقبل. هكذا فإن مرتكزات الحل السياسي، من وجهة نظر المعارضة، تقوم على الأسس الآتية: أولاً: وقف القتال وأعمال القصف والتدمير والانتهاكات، والإفراج عن المعتقلين ورفع الحصار وإيصال المساعدات ووقف التهجير، كما عودة النازحين واللاجئين إلى ديارهم وبيان وضع المغيّبين وعودة المفصولين والمبعدين إلى أعمالهم، مع رقابة دولية ضد الانتهاكات وعقد هدنة وسحب القوات غير السورية، وذلك كله إبان المرحلة التفاوضية (مدتها ستة أشهر)، أي قبل الشروع في تنفيذ ترتيبات المرحلة الانتقالية، وكممهّد لها، وهذا أمر طبيعي وضروري. (البنود 2 ـ 5) ثانياً: تأكيد أن لا مستقبل للأسد في المرحلة الانتقالية، ما يفيد بمحاولة مقاربة من قبل المعارضة مع الموقف الدولي بهذا الخصوص، بالموافقة على بقائه في المرحلة الأولى التفاوضية، مع ملاحظة أن الجديد هنا يتمثل بتحول المعارضة من هدف إسقاط النظام إلى هدف رحيل الأسد، ومعه المسؤولون عن الانتهاكات الحاصلة بحق السوريين (البند الرقم 14)، وهو تحول نوعي كبير. ثالثاً: إعادة هيكلة الجيش وأجهزة الأمن واخضاعها لإشراف هيئة الحكم الانتقالي، التي ستتشكّل كما هو واضح من النظام والمعارضة ومكونات المجتمع المدني. رابعاً: اعتماد «مبادئ عامة» تأسيسية تكون في صلب الدستور الذي يفترض صوغه من مجلس وطني، وهذه ضمانة مهمّة يجدر ترسيخها والتأكيد عليها، من دون أي حديث عن أقليات وأكثريات من أي شكل، وعلى أرضية المواطنة المتساوية، مع الحفاظ على الحق في حرية الرأي والاعتقاد والتعبير. خامساً: الاعتراف بحقوق الأكراد ليس الفردية فحسب، وإنما القومية أيضاً، في إطار الوطن السوري، وهذه إشارة مهمة يمكن البناء عليها مستقبلاً، ويأتي في هذا الإطار، أيضاً، النص على إعادة الجنسية للذين جرّدوا منها بموجب إحصاء 1962 في محافظة الحسكة. سادساً، إلغاء قرارات التجنيس كافة (باستثناء المواطنين الكرد) وإلغاء قرارات الاستملاك لغير السوريين التي تمت في تلك الفترة (الأزمة)، والقصد من هذا وذاك وقف كل الإجراءات والقرارات التي اتخذت لتغيير الطابع الديموغرافي في بعض المناطق السورية، وضمن ذلك إيقاف عمل بعض المؤسسات الحكومية والتابعة المتورطة بالانتهاكات. ثامناً: المقاربة مع الموقف الدولي، للتعويض عن الخلل في موازين القوى، من خلال استناد المعارضة في رؤيتها إلى المرجعيات الدولية (البند الرقم 1) من بيان جنيف (2012) إلى قرارات مجلس الأمن الدولي سيما القرار 2254 (2015) والقرار 2118 (2013)، إضافة إلى تحميل مجلس الأمن مسؤولية تحقيق الانتقال السياسي في حال عرقل النظام ذلك. أما بخصوص المبادئ التي تحكم عملية الانتقال السياسي وإقامة سورية المستقبل فيلاحظ أن رؤية المعارضة استعادت المنطلقات الأولى لثورة السوريين باعتبارها ثورة من أجل إنهاء نظام الاستبداد ومن أجل الحرية والكرامة والمواطنة والديموقراطية، وهذا يحسب لها، بعد كل الانزياحات والتشوهات والاضطرابات التي شابت هذا الخطاب وأضرت بصدقية الثورة، وبإجماعات السوريين. أما هذه المنطلقات فهي وفق الوثيقة تقوم على: 1- أن الشعب هو مصدر السلطات، يمارسها من خلال انتخابات دورية... ويقوم نظامه السياسي على أساس الممارسة الديموقراطية والتعددية وتداول السلطة والمواطنة، التي تساوي بين جميع السوريين في الحقوق والواجبات، من دون تمييز... وأن نظام الحكم يقوم على مبادئ الفصل بين السلطات، واستقلال القضاء وضمان الحقوق والحريات الأساسية للمواطنين جميعاً. 2- يؤسّس العقد الاجتماعي في النظام الجديد على مبدأ المواطنة وتتمثل فيه مكونات الشعب كافة ويتركز على صيانة الحريات العامة كحرية الاعتقاد والممارسة السياسية والمساوة والعدالة وتكافؤ الفرص. 3- تضمنت الوثيقة النص على حقوق المرأة العامة والفردية، بما في ذلك الحفاظ على «كوتا» للنساء تقدرّ بـ 30 في المئة في الكيانات والمؤسسات. 4- تحقيق السلم الأهلي والمصالحة الوطنية، وردع النزعات الثأرية، بواسطة ضوابط دستورية وقانونية... وتطبيق العدالة الانتقالية لتحقيق الانصاف ورد المظالم إلى أهلها، وهي نقطة على غاية الأهمية لتحقيق الاستقرار والمشاركة في بناء سورية الجديدة، بعد كل ما جرى. 5- النص على أن مهمة الجيش والقوات المسلحة هي الدفاع عن الوطن. وأنه يخضع للمستوى السياسي (هيئة الحكم الانتقالي او الحكومة في ما بعد)، ويمنع على أفراد الجش ممارسة النشاط السياسي. على أية حال، فإن المسألة لا تتعلق بالنصوص فقط، وإنما هي تتعلق بالعمل وفق معايير النزاهة والمسؤولية والمصلحة العامة، كما بتعزيز ثقافة العيش المشترك وقبول الآخر وتداول السلطة والمشاركة السياسية، كما بمدى خضوع الهيئات التي يتم تشكيلها للمراقبة والمساءلة والنقد والمحاسبة، وأخيراً فهي تتعلق بقدرة المعارضة على تطوير أحوالها، وتعميق ادراكاتها لأهمية ترسيخ الديموقراطية في العمل السياسي، لبناء سورية المستقبل. أما بخصوص الرؤية بحد ذاتها فهي بالتأكيد لن تكون مقبولة من قبل النظام وحلفائه، بمعنى أن المعارضة ستخضع لضغوط لتقديم تنازلات في هذا الجانب أو ذاك، لكن ما يجب إدراكه هنا أن المعارضة كانت تنازلت سلفاً بتحولها من هدف إسقاط النظام إلى هدف رحيل الأسد (والمقربين منه الملطخة أيديهم بدماء السوريين)، وأنه بعد ذلك لا معنى لأي تنازل، لأن ذلك سيعني تبديد كل التضحيات، كما سيعني سقوط المعارضة، أو انتحارها، أي لا أقل من سحب كل الصلاحيات التشريعية والتنفيذية من الرئيس، وإعادة هيكلة الجيش وأجهزة الأمن، والفصل بين السلطات. بعد كل ذلك فإن هذا يفترض إدراك مسألتين، أولاهما أن هذه رؤية تفاوضية، ستخضع للصراع على الأرض وموازين القوى، وفي شكل خاص لإرادات القوى الخارجية سيما الولايات المتحدة وروسيا. والمسألة الثانية، أن الوضع السائد يتأسس على معادلة متوازنة، حيث لا النظام يستطيع الحكم كما كان في السابق ولا المعارضة تستطيع فرض ما تريد، أي أن القوى الخارجية هي التي أضحت مقررة في الحسم وفي أي اتجاه وعلى أي نحو، أي أننا إزاء وضع يمكن تسميته نصف ثورة أو ثورة ناقصة، وفي هذا الوضع كلما كان وضع المعارضة أفضل كلما عززت دورها ومكانتها ومكاسبها إزاء النظام. الآن، ربّ قائل إن الشعب السوري قدم تضحيات جمّة، وأنه لا ينبغي له أن يخضع لإرادات القوى الدولية، وهذا كلام حق ومشروع، بيد أنه لا يفيد بوقف القتل والتدمير والتشريد، ناهيك أنه لا يكفي لتحقيق الغلبة على النظام، على ضوء موازين القوى والمعطيات الدولية والإقليمية السائدة. أيضاً، فإن هذا الكلام يفيد بطرح السؤال الآتي: هل تستطيع المعارضة السياسية والعسكرية والمدنية إسقاط النظام بقواها الذاتية (ليس الآن وإنما حتى في المدى المنظور) مع كل هذا التشرذم والترهّل والتخبّط في إدارة الصراع وبناء القوى وصوغ الخطابات والفجوة بين المعارضة ومجتمعات السوريين في الداخل والخارج؟ وإذا كان الجواب لا، بناء على عوامل كثيرة من بينها: ضعف الامكانات الذاتية، وغياب أي أفق لتطوير القوى اللازمة، وضعف البيئة الدولية والإقليمية المساندة، ففي هذه الحال يبقى على المعارضة أن تعيد بناء ذاتها بحيث تصبح أكثر تمثيلاً وانفتاحاً على مجتمعها، وأكثر أهلية بطريقة تعزز صدقيتها، كما يتطلب ذلك منها انتهاج خطابات سياسية مطمئنة وجمعية ومسؤولة، بحيث توسع وتعمق وتطور التقاطعات بينها وبين البيئة الدولية المساندة لها، كي تعوّض القصور في قواها. ملاحظة أخرى يمكن طرحها على خلفية ردود الأفعال المتشككة أو غير المؤيدة بدعوى تظلم أكثري أو أقلّي، ومفادها أنه لا يمكن أي قوة أو كيان سوري، سياسي طائفي إثني أيديولوجي مناطقي عشائري، أن يطالب بفرض وجهة نظره من دون الآخرين لاعتقاده بمظلوميته او أحقيته او اكثريته او اقليته، إذ أن أية رؤية ناجحة ينبغي ان تنطلق من أن سورية لكل السوريين، كمواطنين أحرار ومتساوين. قصارى القول فإن هذه الرؤية تتسم بالواقعية السياسية والموضوعية والمسؤولية، لأن المسألة لا تتعلق بأن تقول أفضل الكلام وأنت لا تستطيع شيئاً، ولا أن تقول الحقيقة من دون التحلّي بالمسؤولية تجاه ضرورة وقف القتال والدمار. هذا لا يعني ان هذه رؤية كاملة وشاملة ولا ينبغي نقدها، وإنما يعني أنها تحتاج إلى دعمها والالتفاف حولها والبناء عليها لتطويرها، لأنها تستعيد المبادئ الأساسية للثورة وتؤسس لرؤية وطنية جديدة لكل السوريين، وهذا ما هم بحاجة إليه بعد كل هذا التخبّط في الخطابات السياسية.     * كاتب فلسطيني

مشاركة :