(1) خطأ كبير أن يُنظر إلى مؤتمر غروزني بمعزل عن أخبار التقدم النوعي الذي تحرزه الثورة السورية في معارك فك الحصار عن حلب وفي غيرها.. وصعب أيضاً أن نغفل التقارب (التركي ــ الروسى) الأخير ومن ثم (التركي ــ الإيرانى) إذا أردنا أن نفهم مغزى عقد مؤتمر غروزني في هذا التوقيت تحديداً.. المؤتمر كان سياسياً بامتياز، أما مسألة تحديد أهل السنة من أهل البدع والضلالات فشيء يدعو إلى السخرية بأكثر مما يفتح الباب أمام نقاش علمي يجمع الأمة ولا يفرقها. روسيا التي بدأت حربها الخاصة قبل نحو عام من الآن في عمق الأرض العربية -بمباركة علنية من الكنيسة الأرثوذكسية الروسية وصفت فيها احتلال سوريا بالحرب المقدسة- ليست اليوم في حاجة إلى غطاء ديني (إسلامى) كما علق بعض المحللين يدعوها لعقد مؤتمر كهذا؛ لأن صناع القرار في موسكو يعلمون جيداً أن شرعية دينية كهذه صعب اكتسابها بمجرد مشاركة بضع عشرات من مشايخ رسميين هم على أقصي تقدير يمثلون أنظمة حكم بلادهم.. كان المراد تضييقاً للخناق على المملكة العربية السعودية تحديداً بوصفها الحالي كقائد للمحور السني المناوئ لمحور (موسكو ــ طهران).. تضييق من نوع جديد يأمل من ورائه الروس إجبار الرياض على التقهقر مجدداً إلى مربع (رد الفعل). ••• (2) برأيي أن بعض الدعاة والعلماء ممن حضروا المؤتمر الروسي لم يتفطنوا إلى الغرض السياسي الاستراتيجي الذي أراده منظمو المؤتمر.. وهذا ما يؤيده بيان الأزهر التوضيحي مثلاً عقب عودة وفده رفيع المستوي من هناك.. البيان تحدث عن "تحريف" أو دعني أقل "تطويع" لخطاب فضيلة شيخ الأزهر على غير ما أراده هو وعلى نحو يخدم الغرض الرئيسي للمؤتمر من إقصاء السلفيين من مسمي (أهل السنة والجماعة).. والحق أني قد سمعت قبل ذلك شيخ الأزهر في أكثر من مناسبة يذيل عبارات علمية عقدية بقوله عن أهل السنة: (هم الأشاعرة والماتيريدية وأهل الحديث) وهو نفس ما استدركه بيان الأزهر عقب عاصفة هجوم جماهير أهل السنة على مواقع التواصل الاجتماعي وعبر عشرات المقالات الصحفية. الأزهر كبير جداً.. وشيخه في هذا التوقيت الحرج من تاريخ الأمة رجل عاقل جدا.. متزن إلى أقصي حد.. يحسن قراءة مآلات الأمور ويحسب قراراته بدقة.. ويسعي بحسب طاقته إلى قيادة السفينة عبر أمواج متلاطمة من سفاهة وتطاول الإعلام تارة ومن معاكسة السلطة تارة ومن ضغط خارجي تارة أخرى.. وهذا ما يدركه من أشرف على هذا المؤتمر فكرة وإعداداً وتمويلاً واحتضاناً.. فلتكن الرياض إذن أصبر من هؤلاء كلهم وأبعد نظراً ولتبرهن بالرد العملي على أن الأزهر ما كان قط ولن يكون رأس حربة، بل ولا حتى طرفاً في أي عمل يستهدف العدوان لا على المملكة السعودية ولا على أهل السنة على اختلاف مشاربهم وتعدد أطيافهم.. نعم العبارة صحيحة، الرياض هي من ستبرهن بالرد العملي وليس الأزهر. ••• (3) المسألة بالنسبة للرياض تتجاوز بكثير الانتصار العلمي لمدرسة فقهية أو حتى عقدية ينتسب إليها أغلب المواطنين السعوديين؛ فضلاً عن عموم المسلمين في المشرق والمغرب.. تتجاوز ذلك لتصنف ضمن مسائل (الوجود) نفسه وهو ما لن يختلف عليه اثنان في المعسكر السعودي الكبير السلفي منهم والليبرالي. وهذا تحديداً ما لم يفهمه حتى الآن من تَصَوَّر أنه قادر على (تخليق) مشروع جديد تتوافر له البنية الثقافية والاقتصادية والعسكرية.. الرهان على مشروع كهذا خطير جدا لا مجال للتجربة فيه أو المزاح أو حتى جس النبض.. لا مجال فيه لمن لا يستطيع مواجهة أزماته الداخلية فضلاً عن قيادة أو حتى المشاركة في تحول ٍإقليمي ودولي كبير ضد (الرياض). السؤال الآن ليس عن رد (الرياض) وإنما عن كيفيته وتوقيته.. الرد من جنس الفعل نفسه قد يكون بعقد مؤتمر مشابه أو سلسلة مؤتمرات سيكون فرصة مواتية لاستعراض عضلات القيادة الفكرية السعودية بجذب علماء أهل السنة من شتى بقاع الأرض عرباً وعجماً سلفيين وغير سلفيين، بل وقد يضم من المراقبين من لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ليحمل الحدث طابع العالمية الحقيقية. ولو كنتُ ناصحاً لصانع القرار لاقترحت عليه مؤتمراً ثانياً يستضيف علماء المذهب الزيدي والمعتدلين من حملة المذهب الجعفري الاثني عشري ليكشف للأمة حقيقة الأطماع الفارسية التي لا يمثل التشيع لها إلا ستاراً. ومؤتمراً ثالثاً يستضيف أهل السنة وغيرهم من مسلمي القوقاز وروسيا ودول أوروبا الشرقية وآسيا الوسطي يعرف بالمعاناة التي لاقاها المسلمون على أيدي الروس قديماً وحديثاً. ••• (4) روسيا تعلم أنها أقدمت على خطوة إستراتيجية ضخمة ونقلت الصراع برمته إلى درجة أرفع من مجرد كونه صراعاً عسكرياً حول تقاسم مناطق النفوذ في الشرق الأوسط.. (مؤتمر جروزني) كان تدشيناً روسياً رسمياً لصراع حضاري لن ينحسم أبداً بالوصول إلى تسويات سياسية في سوريا أو في غيرها.. صراع حضاري ستحرك فيه كل الأطراف أدواتها وستشهر خلاله كل أسلحتها بلا هوادة. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :