تحمل أيام الحج كثيرا من المكونات الرئيسية الإثرائية الثقافية، والأدبية، والمعرفية، والعلمية التي من شأنها أن تعطي زخماً وحراكاً ثقافياً مختلفاً، عبر أشكال متنوعة من حيث الشعر، وسير الرحلات وغيرها من المرتكزات المرتبطة بخارطة الحج الثقافية. وعلى الرغم من ذلك تغيب المؤسسات المعنية بالثقافة كالأندية الأدبية، خصوصا خلال موسم الحج، وليالي التشريق التي يمكن استثمارها لبناء رصيد معرفي هائل يخدم الثقافة العربية والإسلامية، ويثري المكتبات العالمية أيضا. طرحت "الوطن" تساؤلها عن سر هذا الغياب، على بعض رؤساء الأندية الأدبية في المنطقة الغربية، وظهر بأن هناك مسارين يمثلان المشكلة، وصفها البعض بالغياب الطبيعي، ووصفها البعض الآخر بالتغييب المتعمد، إلا أن الاتفاق على استثمار شعيرة الحج ثقافيا من الواجبات التي يجب أن تكون على رأس الأولويات الثقافية المقبلة. تبعية إدارية حدد نائب رئيس أدبي المدينة المنورة الدكتور محمد إبراهيم الدبيسي، العديد من الملامح المرتبطة بجوهر الموضوع، منها أنه لا يجد عذراً لمؤسسات العلم والأدب والثقافة في المدينتين المقدستين -على الأقل-، في تقصيرها في الاستجابة لأصداء الحج. وقال في حديثه "إن المعضلة تكمن في التبعية الرسمية الإدارية الصارمة التي تتحمل جزءا من وزر التقصير، والتي تجعل من أمر استضافة حاج عالم أو مثقف بحاجة لمكاتبات وتصاريح.. إلخ". وأضاف "إشكالية غياب المؤسسات الثقافية، "الأندية الأدبية وغيرها من المؤسسات"، كونها تُعد دوائر رسمية، ومن ثمَّ فهي مغيَّبة في ظل الرؤية الإدارية وحدودها التنظيمية التي تحكمها وتوجِّهها، وليس ثمة من يتنبَّه إلى حساسية وثراء موسم الحج، لإضاءة الشعيرة ثقافياً وأدبياً ومعرفياً، بالرغم من اكتنازها بزخم من المعاني والمعرفة، أدباً، ، وسيراً، ورحلات، ومدونات، ولكل قطر مسلم فيها إسهام، ناهيك عما تحفظه ذاكرة مكة والمدينة من حكايات الحج، وما ينطوي عليه وجدان أهلهما من قصص وتقاليد وموروثات، ووشائج تربط أهل المدينتين بالحجاج، وما تحويه مكتباتهما من مصنفات خاصة بالحج، ليس بوصفه شعيرة فقط، بل بوصفه كينونة مقدسة، ورحلة عمر قد لا تتكرر". واستحضر الدبيسي فترة الستينات الهجرية من القرن الماضي، حينما كان ناديا "الحفل الأدبي"، و"جماعة المحاضرات" التي أسسها "عثمان حافظ"، في الستينات الميلادية لتفعيل الجانب الإثرائي في الحج في المدينة المنورة، يستثمران الموسم باستضافة العلماء والمثقفين من الحجاج، ويقول: "لقد كان بالنسبة لها، موسماً للنور والتنوير والتلاقي الإنساني والثقافي، يُنتظر حلوله فيهما كل عام". سببان جوهريان يقول رئيس النادي الأدبي والثقافي بجدة الدكتور عبدالله السلمي، إن "الأمور التنظيمية والإدارية، وغياب الاعتراف بدور المؤسسات الثقافية من قبل حملات الحج، والتداخل في المفهوم الاصطلاحي ما بين الدعوي والأدبي". ويرى السلمي، أن هناك سببين جوهريين لإبعاد الأندية الأدبية عن زخم الحج، منه "أن القائمين على حملات الحج ما زالوا غير معترفين بالأداء الثقافي، وترك الأمر للأئمة والدعاة، الذين يملؤون المساحة بطرح أحادي الجانب، على حساب الطرح الفكري الواعي المتنوع، وما يمكن أن يخلق من علاقات ثقافية متميزة مع الحجاج." مضيفا أن "هذا الغياب يستدعي تدخلاً من الجهات الرسمية ذات العلاقة، لإنهاء حالة القطيعة بين موسم الحج والأندية الأدبية، وبخاصة من قبل وزارة الحج والعمرة، بتوجيه الحملات بالسماح للأندية تنفيذ برامج تشرح الحج من جانبه الثقافي والمعرفي. وأن تنفيذ البرامج الثقافية في الحج يستدعي شراكة حقيقية بين عموم الجهات، ومن ضمنها الأندية الأدبية، من خلال بلورة "اتفاقية تعاون"، تستطيع عبرها توجيه الكوادر المؤهلة لتنفيذ برامج ذات صبغة ثقافية، في حملة واسعة للتثقيف المعرفي الواعي والميداني المتواجد على مدار الساعة في المشاعر المقدسة، أسوة ببعض الجهات الحاضرة هناك" حراك مستحدث وصف رئيس النادي الأدبي بمكة المكرمة الدكتور حامد الربيعي، الحراك الثقافي في موسم الحج بالمستحدث، الذي لم يسبق للأندية الأدبية الولوج فيه، معتبرا ذلك نافذة جديدة للتواصل غير التقليدي بكل تقاطعاته وحركيته. ومضى الربيعي للتأكيد بأن موسم الحج يعتبر ثقافة متكاملة بحد ذاتها، سواء على المستوى التاريخي أو الأدبي، وهو حركة ثقافية واسعة تتطلب بالفعل تواجد الأندية في المنطقة الغربية أو حتى كل أندية المملكة، لأن كل منها يحمل أدبيات مخزونة في الذاكرة المعرفية المجتمعية، ومرتبطة بشكل غير مباشر بهذه الخارطة. مشيرا إلى أنهم في أدبي مكة، سيبحثون جدياً مسألة تواجدهم ثقافياً في المشاعر المقدسة، من خلال الأمسيات الشعرية، والندوات، واستعراض رحلات الحج، وما بث فيها من قصص وحكايات مغيبة عن الواقع الثقافي اليوم.
مشاركة :