د. محمد فراج أبو النور منذ وقوع الزلزال البريطاني بتصويت الناخبين في 23 يونيو/حزيران الماضي بأغلبية ضئيلة على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، لا تكاد تتوقف التحركات الأوروبية الهادفة لاحتواء آثار ذلك الزلزال وتعزيز وحدته وتماسكه في مواجهة أي توابع محتملة وطبيعي أن تتصدى ألمانيا وفرنسا وإيطاليا للنهوض بهذه المهمة باعتبارها الدول الثلاث الأكبر في الاتحاد بعد خروج بريطانيا، وباعتبار أن التحالف الألماني- الفرنسي بالذات يطلق عليه دائماً قاطرة الاتحاد الأوروبي بينما أصبحت إيطاليا ثالث أكبر دول الاتحاد العتيد اقتصادياً بعد خروج بريطانيا. كان من البديهي أن يسارع زعماء الدول الثلاث لعقد قمة عاجلة بينهم في برلين في 27 يونيو 2016، أي بعد أيام قليلة من إعلان نتيجة الاستفتاء البريطاني بريكست لبحث نتائجه، وما يتعين على أوروبا اتخاذه من إجراءات للحد من الخسائر المترتبة عليه. ثم عاد الزعماء الثلاثة ميركل وهولاند ورينتسي لعقد قمة ثانية بينهم في جزيرة فينتونيني الإيطالية، قبالة نابولي، جنوبي البلاد (22 أغسطس/آب) لمواصلة بحث سبل احتواء آثار الخروج البريطاني، حملت أجندتها عنوانا عريضا هو إعادة إطلاق الاتحاد الأوروبي، حسب كلمات رئيس الوزراء الإيطالي ماثيو رينتسي، أي إعطاء قوة دفع جديدة للاتحاد، ومناقشة سبل مواجهة التحديات الماثلة أمامه، وتعزيز وحدته، ودرء أي احتمالات للانقسام أو التفتت، وهو ما حذر منه بشكل خاص الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند. وقد ناقش الزعماء الثلاثة قضايا مكافحة الإرهاب الذي تتزايد مخاطره بصورة هائلة في الشهور الأخيرة بصفة خاصة منذ هجوم باريس الكبير على عدد من مواقع العاصمة الفرنسية، واتفقوا على ضرورة إيلاء أهمية قصوى لقضايا الأمن الخارجي والداخلي، والعمل على بناء نظام دفاع مشترك، والتعاون بين أجهزة المخابرات، وتحقيق تكامل أفضل بين الصناعات الدفاعية الأوروبية، وتفعيل القوة الأوروبية لحرس الحدود وخفر السواحل، والمشاركة الفعالة في الحرب على الإرهاب في كل من سوريا وليبيا. كما اتفقوا على ضرورة تعزيز الموقف الأوروبي المشترك من مسألة الهجرة المتفاقمة باستمرار، والعمل على وقف انطلاقها نحو أوروبا بمختلف السبل، بما في ذلك تقديم المساعدات الاقتصادية للدول التي يمر عبرها اللاجئون كتركيا وليبيا وتونس. ونود أن نلفت النظر هنا إلى أنه برغم التحديات الخطيرة التي يمثلها الإرهاب، وتلك التي تمثلها الهجرة الواسعة، فإن زعماء الدول الثلاث الكبرى لم يطرحوا وقف العمل باتفاقية شينغن الخاصة بحرية الانتقال بين أغلب الدول الأوروبية أو حتى تعديلها، كما طالب بذلك عدد من السياسيين الأوروبيين، خاصة في الدول الصغيرة، الأمر الذي يوضح ثقتهم في أن الاتحاد قادر على مواجهة هذه المخاطر من خلال الإجراءات السابق الإشارة إليها، ودون إلغاء أو تعديل اتفاقية شينغن بما تمثله من حرية لانتقال الأفراد أصبحت جزءاً من الطابع الحضاري والاقتصادي لأوروبا. وعلى الصعيد الاقتصادي اتفق الزعماء الثلاثة على الحاجة لاتخاذ إجراءات قوية من أجل إعادة إطلاق النمو الاقتصادي المتعثر في دول الاتحاد، ومكافحة البطالة بين الشباب، وزيادة الاستثمارات في مجالات التكنولوجيا المتطورة واقتصاد المعلومات والطاقة المتجددة، واقترح هولاند زيادة الاستثمارات التي يوجهها الاتحاد إلى بلدانه الأقل تطوراً خلال السنوات الثلاث (من 2015-2018) بقيمة (315 مليار يورو).. ونلفت النظر هنا إلى تصريح المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بأنها تريد أوروبا أفضل بدلاً من أوروبا أكبر السائد حالياً، وهو ما يمكن تفسيره بالرغبة في التريث في ضم أعضاء جدد يمكن أن يمثلوا أعباء اقتصادية جديدة على الاتحاد العتيد، كما أعلنت ألمانيا معارضتها للإخلال بشروط ماستريخت الخاصة بضبط سقف عجز الموازنة منسوبة للناتج المحلي الإجمالي عند (3%) كهدف ينبغي السعي إليه بإصرار لكل الدول الأعضاء في منطقة اليورو، واحترام سقف ال(60%) كحد أقصى للدين العام منسوبا للناتج المحلي، الأمر الذي يعني التمسك بنزعة تقشفية تميل إيطاليا وفرنسا إلى التحلل منها سعيا لجعل الاقتصاد أكثر قدرة على التوسع. قمة فينتونيني والأجندة الواسعة التي نوقشت فيها تجيء إعدادا لقمة براتيسلافا عاصمة سلوفاكيا الاستثنائية الموسعة لدول الاتحاد الأوروبي ال27، المقرر انعقادها يوم 16 سبتمبر الجاري (غداً) والتي يفترض أن تتخذ قرارات اتحادية بشأنها. على أن يجرى استكمال بحث وتطوير أوضاع الاتحاد الأوروبي وما يستجد من أعمال في قمة روما المقرر انعقادها في مارس/آذار القادم 2017 بمناسبة الذكرى الستين لتأسيس السوق الأوروبية المشتركة، من ست دول مثلث نواة الاتحاد الأوروبي بصورته الحالية، وبديهي أن تناقش القمتان القادمتان وضع بريطانيا، وإجراءات خروجها من الاتحاد وفقاً للمادة (50) من معاهدة لشبونة التي تنظم خروج الدول من الاتحاد الأوروبي.. وهي عملية من المقدر لها أن تستغرق عامين، لفض الاشتباك العميق والمعقد مع المؤسسات والنظم الاتحادية. ويلفت النظر هنا أن هولندا التي تحدث الإعلام أكثر من الخبراء عن مخاطر انشقاقها قد رفض برلمانها طرح قضية خروجها من الاتحاد للاستفتاء الشعبي بأغلبية 124 صوتاً ضد 14 صوتاً فقط يمثلون اليمين المتطرف! كما يمكن أن نجد في دول الشمال الأوروبي المتطور والغنية أصواتاً تطالب بالخروج من الاتحاد والتخلص من أعبائه، سواء المساعدات المقدمة للدول الفقيرة أو هجرة أبنائها نعني أعضاء الاتحاد، إلا أن مستوى الترابط الشديد الذي تحقق بين اقتصادات تلك الدول وبقية دول الاتحاد، خصوصاً في منطقة اليورو، التي وصلت إلى توحيد العملة- يجعل خروجها من الاتحاد بمثابة تمزيق أعضاء جسدهم، وسببا لخسائر فادحة، فينتصر صوت العقل سريعا.. وأما دول جنوب شرق أوروبا البرتغال وأيرلندا في الغرب فإن حاجتها إلى المساعدات والأسواق وفرص العمل الأوروبية تجعل فكرة الانسحاب من أوروبا الموحدة غير واردة لديها أصلاً. ولا يمنع هذا من ممارسة بعض الدول أشكالاً من الابتزاز بهدف تعظيم مكاسبها أو تقليل التزاماتها. والواقع أن وضع بريطانيا يختلف تماماً عن أوضاع الدول الأخرى في الاتحاد، وصحيح أن خروجها من الاتحاد الأوروبي كان بمثابة زلزال، نظراً لوزنها الاقتصادي والسياسي والاستراتيجي الكبير.. إلا أن توابع هذا الزلزال ليس من الضروري إطلاقاً أن تمنع خروج دول أخرى لها ظروف وأوزان مختلفة تماماً، ولنلاحظ مثلاً أن بريطانيا لم تندمج أبداً حتى النهاية في الاتحاد الأوروبي، فقد احتفظت بعملتها الإسترليني ورفضت الانضمام إلى منطقة اليورو أو على اتفاقية شنغن، وضاقت ذرعاً بالمهاجرين إليها من دول الاتحاد في شرق وجنوب أوروبا، وحاولت دائماً أن تدفع التزامات أقل مما يفرضه ناتجها المحلي الإجمالي في موازنة الاتحاد، وأشهرت قضية السيادة في مواجهة التشريعات والاتفاقيات والمؤسسات الأوروبية، وباختصار فقد حاولت أن تحصل على أكبر قدر ممكن من المزايا بأقل التكاليف. لذلك نقول إن توابع الزلزال البريطاني لن تتخذ شكل انفصال دول أخرى على الأرجح في المدى المنظور على الأقل. وإن كان الاتحاد الأوروبي يظل بحاجة إلى كل خطوة نحو تعزيز وحدته، ودفع اقتصاده للأمام.. وفي هذا تكمن أهمية قمة فينتونيني وقمة براتيسلافا. * كاتب مصري
مشاركة :