منذ القدم يُخدع الإنسان بالتصورات الجاهزة الذائعة في عصره، وتُغلق أمامه بسببها سبل المعرفة، ولو فتّش كل إنسان نفسه لوجدها ضحية لتلك التصورات، التي تبلغ من العموم والإحكام والإجابة عن كل أسئلته مبلغاً يجعلها مهيمنة عليه، ومحكمة القيود حول نظراته، فهو لا يرى إلا ما تسمح له برؤيته، ولا يبصر إلا ما تُتيح له أن يبصره، وما يحكم الإنسان يحكم الأمة، ويُسيطر على الجماعة، ومثل هذه التصورات تحكم تأريخ الإنسان، لِمَ تحمل هذه الأمة في عقولها تصورات تُفرّقها، ومفاهيم تشتّتها؟ لماذا تجمع المسلمين عباداتُ دينهم وتُفرّقهم تصورات مذاهبهم؟ وما الذي جعل الإنسان المسلم يغفل عن دلالة فروض دينه وشعائره التي لا تُفرق بين إخوانه ويفتح أبواب ذهنه لأضرار تصورات المذهبيات.. وتكتب سيرة عقله، ولو نظرنا إلى تأريخ العقل المسلم في تشكيل تصوراته عن دينه؛ لوجدناه خاضعاً لتصورات حكمته، وضيقت عليه مدى الرؤية، فصار ضحية لها، وصار دينه مثله، وشاهدي على هذا المذاهبُ التي لم تكن سوى تصورات لأهلها، نشأت بعد أن لم تكن، وأسرتْ العقل المسلم وأغفلته عن دلالة فروض الإسلام وشعائره التي كانت تقف ضد تلك التصورات المذهبية التي تُفرّق المسلمين، وتُصنفهم حسبها، تجمع فروض الإسلام وشعائره المسلمين، ولا تضع الفواصل بينهم؛ فهم يصلون معاً وإن اختلفوا، ويحجون إلى بيت الله وإن تباينوا، يترك المسلم في مسجده التفكير فيمن يُجاوره، ويدع في حجه التأمل لمذهب من يُصاحبه، تبني فروض الإسلام وشعائره روحاً اجتماعية رحبة الآفاق، وأمة متماسكة الظاهر، فلِمَ تحمل هذه الأمة في عقولها تصورات تُفرّقها، ومفاهيم تشتّتها؟ لماذا تجمع المسلمين عباداتُ دينهم وتُفرّقهم تصورات مذاهبهم؟ وما الذي جعل الإنسان المسلم يغفل عن دلالة فروض دينه وشعائره التي لا تُفرق بين إخوانه ويفتح أبواب ذهنه لأضرار تصورات المذهبيات التي خلقت سدوداً بين المسلمين وأقامت الحوائل بينهم؟. أيهما أكثر دلالة على الإسلام وتعبيراً عنه؛ أركانُه وشعائره الظاهرة أم مذاهب أهله التي شرّقت في الأرض وغرّبت؟ وأي الأمرين أدلّ على الإسلام أقوال البشر في تلك المذاهب التي قسّمت المسلمين وجعلتهم شيعاً أم فروضه وأركانه التي ما زالت تجمعهم وإن اختلفوا، وتحتويهم وإن تنازعوا؟ وأيهما أدلّ على دعوة محمد عليه الصلاة والسلام الرحيمة هذه الفروض التي قضى بها الله تعالى على عباده أن يتحدوا ويجتمعوا أم تلك المذهبيات التي اتّخذت في الماضي، ورُكبت في الحاضر، في سبيل تفريق المسلمين وشغلهم بإخوانهم الذين ينتمون إلى دينهم، ويقضون أعمارهم في إقامة فروضه وشعائره مثلهم؟. لقد استطاعت المذهبيات، سلفية وغير سلفية، أن تحجب بمقولات أصحابها وتصوراتهم دلالات شعائر الإسلام الكبرى وأركانه العظمى، وأذهلت عقل المسلم عن معاني الوحدة والاتحاد والألفة والائتلاف فيها، وأصبح المسلمون كافة أقرب إلى مذاهبهم وتصورات رجالها من تلك المعاني التي تجمعهم وتوحد بينهم، وهكذا استطاعت التصورات التي كان معظمها لا يُعرف في العصور الأولى أن تضحي أعظم أثراً في تشكيل علاقة المسلم بأخيه المسلم، وأن تحل محل معاني تلك الفروض والشعائر، وما كان لها أن تصنع بالمسلمين تلك الصنائع لولا أنها أغفلتهم عن مباني الإسلام العظيمة ودلالاتها البينة القويمة، ولولا أن عقولهم اصطبغت بها، وتلوّنت بألوانها، ولم تعد منتبهة في ظل سطوتها إلى ما تحمله هذه الشعائر من توحيد الخالق وتوحيد الناس في سبيل مرضاته ودروب عبادته. وفي ظل هيمنة التصورات المذهبية على العقل المسلم، وعجزه مع طول الزمن عن تجاوزها، واتخاذه لها منظاراً ينظر به إلى إخوانه، ويُحدّد موقفه الدنيوي منهم، ومكانتهم الأخروية عند ربهم؛ أصبح من الطبيعي، بل من المنتظر وغير المستغرب، أن ينظر غير المسلمين إليهم من خلال تلك التصورات، وأن يتخذوها حين دراسة الإسلام وأهله وتأريخه، فما دام أهل الدين جعلوا أهله أحزاباً، وفرّقوهم جماعات، ورسموا لهم خطوط القرب والبعد من ربهم؛ فلا غرابة أن تكون هذه الصورة، الملأى بالفرقة والقائمة على ثقافتها، هي الصورة الذائعة عندهم، والمنتشرة في دراستهم، ولا عجب حينها أن تصدّ تلك الصورة الناس عن الدين، وتصدّهم عن التفكير فيه. وفي ظل حضور هذه التصورات المذهبيات الدينية، وغلبتها على دلالات شعائر الإسلام، وانشغال المسلمين جميعاً بها، وتحاكمهم إليها في تحديد قُربهم وبُعدهم من الناس؛ لم يعد غريباً أن يُنظر إلى الإسلام من خلال تلك التصورات، وأن يُنسب إليه ما ينسبه أهله له، وأن يصبح الإسلام موجوداً في أقوال المذاهب والمنقول عن أهلها، وليس في نصوصه وشعائره التي يراها الإنسان، ويقوم ببعضها كل يوم، لقد خسرت بحق أركان الإسلام، وأعمدته الكبرى أمام أفهام الرجال وتصورات الأسلاف. ولم يعد من حق المسلمين، وهم الذين يرون رجال مذهبهم متحدثين عن الإسلام وناقلين لصورته الحقة، أن يعترضوا على مَنْ يأخذ صورة الإسلام من هذا المذهب أو ذاك؛ فالناس لا يُفرّقون بين الدعاوى، ويصعب عليهم ذلك لو أرادوه وهمّوا به، ومن المستبعد جداً أن يقوموا بشيء لم يقم به المسلمون أنفسهم، وهكذا لم تصبح المذهبيات ضرراً على صورة الإسلام بين أهله، وإنما شكّلت صورة الآخرين من سكان هذا العالم عنه، وأصبح الإسلام عندهم أنواعاً، تُعنى بأقوال المذاهب ومأثورات الرجال، وتغفل عن دلالات شعائره العظمى ومبانيه الكبرى. يحج إلى بيت الله تعالى المسلمون هذه الأيام، ويأتون إليه من كل فج عميق، يأتون صوبه من الشرق والغرب، ويقدمون إليه من الشمال والجنوب، تختلف مذاهبهم، وتتنوع بلدانهم؛ لكنهم يجتمعون على أداء هذه العبادة، ويتحدون في قضاء مناسكها؛ فيا ليتنا جميعاً نجعل هذه الشعائر الإسلامية صوب أعيننا، ونتفكّر في مقاصدها التوحيدية، لعلها أن تكون لنا عوناً في إذابة أسباب الفرقة، وعلاج مظاهرها، وتعيننا على مراجعة تلك التصورات المذهبية التي رسمت الحدود بين المسلمين، وفرّقتهم قبل أن يعرفهم العدو، وينصب لهم شِراكه.
مشاركة :