د. يوسف إبراهيم تعرف الأمة الإسلامية بأنها أكثر أمم الأرض إسرافاً، رغم أن الغالبية العظمى من أفرادها من الفقراء ومحدودي الدخل، وهذه صفة ينبغي أن تسعى الأمة جاهدة للتخلص منها، لأن منهجها الاقتصادي يفرض عليها الاعتدال في كل شؤونها. والواقع أن الإسلام يهتم اهتماماً كبيراً بتحقيق الرشد الاستهلاكي، ويلزم المسلم بمجموعة من الضوابط التي يجب أن يحرص عليها ويلتزم بها في الاستهلاك كي يكون سلوكه رشيداً، وهذه الضوابط تمثل فيصلاً في الحكم على رشد السلوك أو غيه. هذه الضوابط ليست خياراً في سلوك المسلم، بل هي ضوابط واجبة جاءت في القرآن الكريم كصفات للمؤمنين الصادقين، كما جاءت في شكل أوامر ونواه صريحة يجب الوقوف عندها، فالله سبحانه يصف حالة المسلمين الملتزمين بمنهج الإسلام الاقتصادي بقوله: والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً.. ويقول آمراً المسلمين جميعاً بالاعتدال الإنفاقي: ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسوراً.. كما يقول سبحانه: وكلوا واشربوا ولا تسرفوا. من هذه الأوامر الإلهية تظهر لنا: ثلاثة مستويات استهلاكية: مستوى التقتير الذي يقف بحجم الاستهلاك عند حد يقل عن المطلوب لبناء الجسم والمحافظة عليه في أفضل الأوضاع الممكنة للقيام بالأعباء والتكاليف. مستوى الإسراف الذي يصل فيه حجم الاستهلاك إلى حد يزيد على اللازم لطيب الحياة. مستوى الاعتدال الذي يكون حجم الاستهلاك فيه فوق المستوى الأول ودون المستوى الثاني. والاعتدال بمستوياته يعني الرشد الاستهلاكي، وهو لا يعني الوقوف بحجم الاستهلاك عند حد أقل من الحجم اللازم للوفاء بضرورات الحياة، مع القدرة على الوفاء بها، وهذا ما يسمى التقتير، وهو سلوك محرم إسلامياً بنص الكتاب والسنة، لأن الإسلام يهدف إلى إشباع الحاجات الحقيقية للفرد والمجتمع، بما يحفظ على الإنسان إنسانيته، ويبني طاقاته.. ولذلك أوجب على المسلم أن يمارس الاستهلاك، وأن يشبع حاجاته التي أقرتها الشريعة، ويعتبر عاصياً إن لم يمارس الاستهلاك في حدوده الواجبة بالقدر الذي يحفظ عليه إنسانيته وطاقاته الفعالة، والأمر الإلهي هنا واضح: .. خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين، فهو سبحانه يأمر الإنسان بأن يأخذ زينته، كما يأمره بالأكل والشرب، فإن لم يفعل كان مخالفا للأمر بالأكل والشرب وأخذ الزينة، الممثل بها لكل حاجات الإنسان المباحة، بل جاء النهي صريحا عن التقتير في قوله تعالى: ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: اتقوا الشح فإنه أهلك من كان قبلكم. هذه النصوص تؤكد أن هناك حداً أدنى من الاستهلاك هو الذي يقوم بالشخص، ويفي بحاجاته وحاجات من يعول، ولا يصح أن يعيش الفرد تحته طالما أنه قادر على تحقيقه، فإن فعل فقد ارتكب إثم التقتير، لأن التقتير ظلم للنفس، وظلم للمجتمع.. فهو يعوق النفس عن أداء وظائفها المنوطة بها في الحياة.. ويصيب المجتمع بالكساد الاقتصادي نتيجة نقص الطلب الفعال فيه، والكساد يلقي بالمجتمع إلى التهلكة، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: اتقوا الشح فإنه أهلك من كان قبلكم، أمرهم بالبخل فبخلوا وأمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالفجور ففجروا.. كما أن التقتير يخل بقدرة الأفراد على القيام بواجباتهم، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ومن ثم فإن معيشة الكثير من أفراد الشعوب الإسلامية، تحت خط الفقر تمثل جريمة تتحمل الحكومات الراعية لشؤونهم وزرها، إذ السعي إلى رفع مستوى معيشة الشعوب فرض لازم. وكما واجه الإسلام التقتير واجه الإسراف، وهذه المواجهة تصب في النهاية في رصيد الرشد الاستهلاكي الذي يسعى إليه الإسلام. والإسراف المنبوذ شرعا يعني تجاوز الحد في الإنفاق الاستهلاكي مطلقا، أو التجاوز في الإنفاق على غرض دون غرض، أي الإخلال بالتوازن في الإنفاق على مختلف الأغراض، والأمر بعدم الإسراف جاء به القرآن الكريم: ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين، ومن كل هذا يظهر لنا أن الإسراف في مضمونه الاقتصادي يعني تجاوز الحد في استهلاك المباحات، والاستجابة لرغبات النفس، التي لها أصل مشروع، الأمر الذي يخرج بالشخص عن حد الاعتدال والتوسط. والإسراف محرم في الإسلام للأسباب نفسها التي حرم من أجلها التقتير فكلاهما ظلم للنفس وتحطيم لقدراتها، وإن اختلفت الوسيلة، كما أن كليهما إهدار للموارد الاقتصادية، وإن كان التقتير يؤدي إلى الكساد فإن الإسراف يقود إلى التضخم، وكلاهما شر يجب أن نتجنبه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: كل ما شئت والبس ما شئت ما أخطأتك خصلتان: سرف ومخيلة. * أستاذ الاقتصاد الإسلامي بجامعة الأزهر
مشاركة :