عندما بدأ الإعداد لانتخابات الرئاسة الأميركية، بدأ الجدل حول السياسة الخارجية. وربما باستثناء انتخابات 1968، لم تكن السياسة الخارجية قضية مهمة وأساسية في الحملات الانتخابية، ولكن ربما بفعل ما تواجهه الولايات المتحدة من بيئة دولية معقدة، وصراعات إقليمية، وتصاعد الإرهاب، تفرض السياسة الخارجية والاختيارات إزاءها نفسها، وعلى كل حزب ومرشح أن يحدد مواقفه منها ورؤيته للتعامل معها. ويوضح الجدل أن ثمة مدرستين رئيستين: ترى الأولى أنه على رغم إخفاقات الحقبة الماضية تظل الولايات المتحدة القوة القائدة التي لا غنى عنها والقادرة أن تصنع ما لا تستطيعه أمة أخرى. هذه الرؤية هي التي شجعت بيل كلينتون على توسيع «الناتو» ومدّه إلى أبواب روسيا من دون أن تكون لذلك نتائج، واعتبار أن الارتباط بالصين سيحولها إلى نظام ديموقراطي، وهي الرؤية نفسها التي دفعت جورج بوش الابن، وهو الذي أقام حملته الانتخابية ضد «بناء الأمم» لإطلاق أكبر مشروعين لبناء الأمم في التاريخ الأميركي. وعلى رغم أن الفشل في العراق وأفغانستان ألقى ظلالاً حول هذه الأفكار، فالمدافعون عنها ما زالوا يقدمون بعض النقاط القوية، فيحذرون من أنه ليس هناك مبرر لنعزل أنفسنا استجابة لتهديدات اليوم، وأن الولايات المتحدة ستكون آمنة إذا ما عاش الآخرون بسلام، وستكون مزدهرة إذا ما أنتجت البلدان الأخرى طبقات اجتماعية تستطيع شراء المنتجات الأميركية. وهم يجادلون بأن الديموقراطية وحكم القانون والحريات تخلق قوة دائمة في المجتمعات التي تتبناها وتحميها، وأن أميركا فقط من يمتلك القوة والإرادة لتمكين هذا العالم والمسؤولية لصنعه. أما المدرسة الثانية فتعتقد أن الرئيس يجب أن يحمي المصالح الأميركية وليس تصدير القيم الأميركية، وأن القيمة الوحيدة التي يــجب أن نبنيها هي أمننا. ولا يجب أبداً إرسال الأميركيين إلى القتل لمجرد الدفاع عن مبادئ ليست المجتمعات المستهدفة مستعــــدة لها. وتعتقــــد هذه المدرسة أن على واشنطـــن قيادة تحالف مع الراغبين والذين يحملون أفكارها نفسها لوقف انتشار أخطــر أسلحة العالم، وحرمان الإرهابيين الأدوات التي يحتاجونها للهجمات الكارثية على الوطن الأميركي. وطالما أن الاقتصاد الأميركي عالمي ومعولم، فالسياسة الخارجية يجب أن تحمي النمو العالمي، بتقليل إمكانية الحرب، وأن تكون للدول القوية مصلحة في الاستقرار من خلال التجارة والاستثمار. وتوزع هذه المدرسة المسؤوليات على حلفاء أميركا. فأوروبا تستطيع أن تأخذ القيادة في رأب الصدع مع روسيا، أخذاً بالاعتبار الروابط الاقتصادية القوية لدول كألمانيا وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا. وبالنسبة الى الشرق الأوسط على الولايات المتحدة أن تحمي أمن إسرائيل ولكن ليس بالضرورة تأييد كل عمل إسرائيلي ضد الفلسطينيين. ولا يجب على أي رئيس أميركي أن يتردد في التفاوض مع أعدائنا إذا كان ثمة شيء له قيمة يمكن كسبه من هذا التفاوض. مع هاتين المدرستين ثمة رؤية أخرى يقدمها الباحث الأميركي إيان بريمِّر، رئيس «مجموعة يوراسيا»، في كتابه الجديد «قوى عظمى»، إذ يقيم هذه الرؤية على ما يسميه «أميركا المستقلة»، ويعني بها الأمة التي تعلن استقلالها عن مسؤولية إصلاح العالم. فالشعب الأميركي لن يؤيد تدخلاً مكلفاً في بلدان لا يهتم بها. وقد تعلم الأميركيون أن أية أمة، حتى لو كانت القوة الأعظم، لن تستطيع في شكل متماسك أن تحصل على ما تريد في العالم، حيث هناك عدد من الدول لديها من القوة ما يكفي لمواجهة الضغط الأميركي، حيث نحتاج إلى أن نوقف إصدار الوعود التي نعلم أننا لا نستطيع الوفاء بها أو التهديدات التي نعلم أننا لن نستطيع تنفيذها. فأي خيار ستتبناه الإدارة المقبلة؟ * سفير مصري سابق
مشاركة :