ذكرياتي في شارع الأعشى!

  • 2/22/2014
  • 00:00
  • 8
  • 0
  • 0
news-picture

في روايتها الأخيرة «غراميات شارع الأعشى»، تعيدك الكاتبة بدرية البشر إلى أجواء القرية بكل بساطتها ورتابتها وطيبة أهلها، لترى الحياة البريئة الهادئة الخالية من الضغائن والأحقاد والتصنيف والتكلف، الجار يسأل عن جاره، والضعيف يجد من يواسيه ويعطف عليه، حتى إن المرأة التي لا معيل لها، يمكنها الاعتماد على نفسها والانتقال من البيت إلى السوق، لتمارس البيع والشراء بكل سهولة ويسر ودون مضايقة من أحد، لقد كان وجودها في السوق وممارستها للبيع والشراء أمراً مألوفاً وعرفاً سائداً، لا يُنظَر إليه على أنه عيب أو خروج على الدين وأعراف المجتمع، ربما لأن خروجها لم تصاحبه حملات احتسابية وصراعات فكرية جعلت منه شيئاً خارقاً، أو هتكاً لأستار الفضيلة. لقد كان الكل يعطف على الكل، والعائلات تخرج زرافات على نفس السيارة مع ابن الجيران، الذي كان يتعامل مع كل من معه على أنهم من أهله، فلا تكاد تقع عينه على عين بنت معه إلا انصرفت بسرعة، حياءً واحتراماً لأعراف المجتمع السائدة آنذاك. لقد كانت العادات والأعراف بمثابة القوانين، من يخرقها يُنبَذ من المحيطين فيه، ويفقد احترامه وتقل هيبته، ويكون شخصاً غير مرغوب فيه، لذا تجد من يقع في الغرام، ربما أضمره في نفسه وأخفاه لسنوات، ولم يبح لأحد بمشاعره حتى الحبيب نفسه، فإن أراد أن يعبر عن هذا الحب أخذ يسترق النظر من فوق أسطح المنازل والشبابيك المشرعة، وقد يعرف الأخبار من خلال أحاديث قريباته الساذجة المكررة المملة، التي كانت تُستَلذ وتصبح أعذب ما تكون حين تتعلق بالحبيب. كان المحب يعتاش على الصدف والمواقف الطارئة والنظرات العابرة التي ربما تطول أكثر مما يجب، لتصل الرسالة صامتة لكنها مدوية وعنيفة، غير أن العلاقة في أغلب الأحوال لا تتعمق إلى ما هو أكثر من الإعجاب والنظرات، حتى إن الحالات التي تصل إلى ما هو أبعد من ذلك هي حالات استثناء، لا تخلو منها أكثر المجتمعات محافظة وتديناً وفضيلة. لقد وجدتني أذرع شارع الأعشى (رايح جاي) رغم أنني لم أزره من قبل ولا أدري أهو موجود بالفعل أم هو مشروع وهمي لهذه الكاتبة، ولعله المشروع الوهمي الوحيد الذي فرحت بإنشائه واحترمت مهندسه، فإني مع إطباق الصفحة الأخيرة من الرواية شعرت أن بيني وبين أهل القرية مودة ومحبة وذكريات لا أريد أن أنساها، ولربما اختلطت عليَّ الحقيقة بالخيال فشعرت أني أحد أبطال الرواية، حتى لكأن القرى تتناسخ بشوارعها وناسها ومواقفها وأسطحها وأحاديث أهلها البريئة المعادة.

مشاركة :