القاهرة: الخليج قبل وفاته عام 1745 كتب جوناثان سويفت دعاء، وجدوه في أوراقه التي لم تنشر: اللهم إنك تهب نعمتك وتصب نقمتك، كما يشاء عدلك ورحمتك، اللذان وسعا كل شيء، فوجه اللهم أفكارنا إلى ما نصبو إليه من نعيم، واصرفها عن ذلك البوار الذي يفوق الوصف، والذي نوشك أن نمنى به. هذا هو سويفت صاحب رحلات جلفر، الذي يصرح بأن غايته القصوى من كتابه هذا أن يوبخ الناس ويقرعهم، لا أن يسليهم ويرفه عنهم، لكن هذا العبقري لم يبلغ غايته هذه من كتابه، وأبى الناس منذ نشر الكتاب سنة 1786 حتى اليوم إلا أن يجدوا فيه مصدراً للتسلية والترفيه، ولم يلتفتوا إلى ما في الكتاب، من تقريع وتعنيف، وظلت الأجيال من الكبار والصغار، تقبل على رحلات جلفر بروح الاستمتاع على مستويات مختلفة. ظل سويفت شديد الازدراء لوحشية البشر، كان يذهله عدم إنسانية الإنسان، وحين بلغ أعوام الحكمة قرر أن يضمن حكمته في الرحلات الخيالية، رحلات جلفر، وبعث بمخطوط الكتاب إلى الناشر في 18 أغسطس/آب 1726 ونشر الكتاب في خريف ذلك العام، ونفدت الطبعة الأولى في غضون أسبوع وضحك الجميع من ذلك الهجوم الذي شنه جلفر على غباء وهمجية الجنس البشري، فقد حسب كل شخص أنه ليس المعني بهجوم الكاتب، إنما المعني جاره، وبذلك وصل الكاتب إلى ذروة الألم. لقد فشل في تحقيق ما يهدف إليه أردت أن أغيظ الناس وأستثيرهم، لا أن أرفه عنهم وأسليهم، رحلات جلفر، هي مغامرات رجل عاقل في عالم مخبول مملوء بالباطل، يرى أن العالم لو أتاح للعقلاء أن يحكموه، لقلت القسوة وزادت الرحمة، وقلت الوقاحة وزادت الحكمة، وقلت الثروة الشخصية وزادت الأخوة بين الناس، كتب سويفت يوماً إلى أحد أصدقائه: طالما حاولت أن أنشئ صداقة بين عقلاء الناس جميعاً، وهم قل أن يزيدوا على ثلاثة أو أربعة في كل جيل، ولو أمكن اتحادهم لساقوا العالم أمامهم سوقاً. في شبابه رسم سويفت قسيساً في قلعة دبلن، كان يتوق إلى بلوغ قمة الكنيسة الإنجليزية، لكن رؤساءه كانوا ينكرون عليه ذلك، فقد كانوا يرون فيه ذلك القسيس المجنون ذو العقل الزاخر بالمفاجآت، والقلم الذي ينبو عن التقاليد المرعية، فهو لا يصلح زعيماً من زعماء العقيدة المتعارف عليها، فقد يلقي بأية قنبلة في أية لحظة على عقيدة إخوانه في الكنيسة. في رحلات جلفر، يتسع هدف سويفت اتساعاً غير مألوف لديه، فهو دراسة السلوك البشري من طرفيه المتناقضين ضآلة وضخامة، وتبدو فيه فلسفة سويفت متداخلة في نسيج العمل الأدبي مع شيء كثير من السخرية التي لا تبتعد عن صميم الواقع، وهي تحلق في عالم الأسطورة والخرافة، متناولاً بالنقد والهجاء السلوك الاقتصادي والتفكير العلمي، ومناهج البحث عن الحقيقة والتقدم الآلي، وطموح البشر بجميع أنواعه، ومن أطرف عناصر رحلات جلفر تصويره الساخر لعالم السياسة ورجال السلطة والحكم وسيداته، والاختباء وراء مظاهر الأبهة والشعارات الرنانة والمعارك السياسية الجادة، فإذا به يعري أمجاد ذوي البأس والسلطان، ليعرضها أمام الناس هزيلة غير جديرة بالرثاء. وكي يصل سويفت إلى هدفه ينقلنا بين عالمين متناقضين، عالم الأقزام وعالم العمالقة، وهو إذ يبدأ بالعالم الأول يمكنا من أن نرى أنفسنا فرادي وجماعات، وقد تجردت التقاليد المرعبة من قداستها، فإذا هي شيء سخيف، نستغرق منه في الضحك، وحين ينتقل بنا إلى عالم العمالقة يكشف لنا عن همجيتنا ووحشيتنا، كما يكشف لنا عن ضآلتنا وغرورنا.
مشاركة :