متى تضع الحرب أوزارها!؟

  • 9/19/2016
  • 00:00
  • 100
  • 0
  • 0
news-picture

إن نتائج الحروب اليوم ليست في تعداد ضحاياها، ولكن نتائجها الأخطر فيما تخلفه في النفوس والآثار.. وما تصنعه من قيود وحواجز ومرارات تعتاش فيها ومنها نفوس لم تعد ترى بين الموت والحياة خيطاً أبيضَ أو أسودَ. يتردد صدى السؤال في زوايا عقل وقلق إنساني بالغ.. متى تضع الحروب أوزارها؟.. متى تنعم هذه البقعة من العالم بسلام يعيد للإنسان بعض ملامحه، ويحيي بعض آماله، ويوقف هذه الانهيارات التي طالت كل شيء من مقومات الحياة.. بل طالت ما هو أعظم وهو الإنسان ذاته الذي تردى اليوم قاتلا او مقتولا.. مشردا يائسا بائسا ليس سوى تعداد كأرقام كثيرة في دائرة الخراب الكبير. أما الأوزار، فكم يبدو هذا اللفظ القرآني عميقا وبالغ الدقة في حشد صورة كثيفة مركزة، فالوزر حمل ثقيل مرهق شاق.. وما أثقل من نتائج الحروب دمارا وشتاتا وترويعا وسفكا وانهيارا. ضج التاريخ العربي بصور حروب قديمة متقطعة طالت عدة عقود.. فمن حرب داحس والغبراء، التي وقعت بين عبس وذبيان، ودامت لاربعين عاما. وحرب بُعاث وهي آخر معركة من معارك الأوس والخزرج في مدينة يثرب، وقيل انها دامت 140 عاماً، بدأت بحرب سميت بحرب سمير وانتهت بحرب بُعاث، وحرب البسوس التي نشبت بين قبيلة تغلب بن وائل وبين قبيلة بني شيبان والتي استمرت 40 عاماً.. وتلك الحروب القديمة التي يتندر بها بعض العرب اليوم لطول أمدها وبواعثها، لم تحل بينهم وبين التورط بحروب لا قبل لهم بها. إن يوما من حروب العرب اليوم لهو أشد هولا من خمسين عاما من حروب الجاهلية.. وإن عوائد العرب في القرن الحادي والعشرين من هذه الحروب لن تمحوها او تزيل آثارها عقود طوال تعجز ان تذيب الأوجاع في نسل من شهد الرعب وعايش كوارث الحروب ومآسيها الفاجعة. حروب اليوم أشد وزرا وخطيئة وآثارا مدمرة من كل حروب العرب البائدة وغير البائدة. حروب اليوم لا تبقى حجرا على حجر، لا وادي أخضر، ولا حقلا ممتدا، ولا توفر طفلا ولا رضيعا ولا شيخا ولا امرأة.. انها سحق للإنسان أولاً.. ولمقومات وجوده وكينونته، وقبل كل هذا تشويه لما تبقى من حكمة او رشاد. إن نتائج الحروب ليست في تعداد ضحاياها اليوم، ولكن نتائجها الأخطر فيما تخلفه في النفوس والآثار.. وما تصنعه من قيود وحواجز ومرارات تعتاش فيها ومنها نفوس لم تعد ترى بين الموت والحياة خيطاً أبيضَ أو أسودَ. إن حروب داحس والغبراء لتبدو لهواً مريحاً أمام ما يحدث اليوم.. فحروب السهام والنبال على أطراف الصحراء بين حين وآخر.. ملهاة صغيرة أمام حروب البراميل المتفجرة والقذائف الصاروخية الموجهة وحمم القذائف الساقطة كل دقيقة على رؤوس الأبرياء الذين يدفعون أكثر من سواهم ثمن الحروب والعنف الأهوج والانسلاخ الكامل عن أي معنى إنساني للحياة والأحياء. وحروب العرب اليوم ليست شيئاً يخصهم وحدهم.. وإلا لما كانت نتائجها على هذا النحو الكارثي.. إن حروب العرب اليوم ليست حروبهم وحدهم، وإن كانوا مادة تلك الحرب وضحيتها، وأرضهم هي الأرض المحروقة تحت حمم ومجنزرات الطغاة العالميين.. الطاغية العربي الصغير يمده حبل من طغاة العالم لتظل هذه المنطقة المنكوبة تحت السيطرة أبد الآبدين.. فلو كان الطاغية الصغير الذي ثار عليه شعبه بعد طول ذل وشقاء وحيدا إلا من قواه الهشة لأمكن سحقه في زمن وجيز.. ولكن حبل الطغاة والجناة موصول بحبل من عالم لا يرى التغيير سوى كابوس يحيق به وبمصالحه ومشروعاته التي لم تتوقف طيلة المئة عام الماضية.. مهما جلب من ادعاءات ورفع من شعارات. ومهما كانت تلك العلاقة مؤثرة ومستحكمة بين الطغاة العالميين وأنظمة القمع المحلية التي تحددت وظيفتها منذ استولت على مقاليد الحكم بحبل من الأكاذيب وحبل من قوى دول كبرى، ظل مخبروها يجوبون هذه المنطقة قبل وبعد نهاية الرجل المريض.. فإن ثمة عقلاً عربياً يجب ان يحاكم ويساءل لانه شريك في التردي والانحطاط.. بل وفي النتائج الكارثية التي نراها اليوم ماثلة لا لبس فيها ولا انتحال. هذا العقل العربي مالم يتخلص من منظومته القائمة على أكاذيب النفس وأوهام العزة والنصر وهو قابع في شرانق التخاذل والاستجداء والتعويل على صبر لا حدود له.. مالم يتخلص من فكرة الارتهان للآخر - أياً كان الآخر- فهو إنما يعطل تفجير القوى الكامنة في ذاته لحماية ذاته أولا، ولحماية ما تبقى من حدوده وأركانه. كل سلطة لا تعتمد على قواها الذاتية في بناء منظومة متماسكة ستكون رهناً ومشروعاً جاهزاً للاختراق.. كل كيان لا يحصن ذاته بمناعة داخلية تجعل الحكم مسؤولية لا امتيازاً أو حيازات خاصة.. سيفقد معنى الثقة به أو بمشروعه، وكل نظام لا يجعل بناء الإنسان محور اهتمامه وتركيزه في أركان منظومة الحكم، قد يجد نفسه يوماً في موقع خسر فيه قاعدة اجتماعية صلبة تدافع عن وجودها بوجوده لتتمزق أشتاتاً عندما تعصف المحن وتتكشف المؤامرات.. في مناطق الحرب اليوم، وفي دول عربية لم تعد دولاً، تبرز صورة النظام/الحكم. فالدول التي ابتليت بأسوأ النظم وأكثرها قمعاً وإجراماً وسحقاً لمقومات الحياة والإنسان.. هي اليوم الأكثر دماراً وإيلاماً، وانهياراتها المتوالية سلسلة من العذابات التي أصابت الإنسان ليس بمقتل فقط، ولكن بحالة قد تكون اقرب للتحلل من إنسانيته تماما.. الى درجة ان يتحول إلى كابوس يتوالد في صورة بشر ولكن بنزعة وسلوك لا أجد كلمة مناسبة لوصفها هنا. هذه العلاقة يجب ألا تغيب عن أذهان المتابعين لكوارث الحروب والدمار.. والمنتظرين على أحر من الجمر ان تضع أوزارها الثقيلة.. وان وضعتها كآلة قتل وإبادة فلن تقوى لمدى قد يطول أن تضع أوزارا أصابت الإنسان العربي عقلاً وتكويناً، وسوف يرثها جيل ولد على عين المشهد الفاجع. هل كانت هذه الحروب والاضطرابات والثورات والثورات المضادة، ضرورة ليكتشف العرب أين يكمن مصابهم الأكبر.. أما انها كرست الداء الذي استشرى شره وخطره حتى صار بعضه أهون من بعض؟ وهل كانت دول العرب مثل اليابان، التي عندما سحقت طموحاتها الامبراطورية بعد خراب هيرشيما وناجازاكي عادت لتكتشف نفسها من جديد.. هل المآسي والحروب والكلفة الباهظة ثمن لوعي جديد؟ المؤشرات لا توحي بذلك، والمقايسات تخطئها ثقافات متباينة ومتجذرة. فكوارث الحروب غذت الحس الطائفي، حد أن أصبحت بعض حروب المنطقة لا تقوم الا على أكتاف الطائفة.. ودون غفلة عن أدوار قوى إقليمية ودولية غذت هذه النزعة وقدمتها للواجهة لتعيد رسم المنطقة المنكوبة بتصنيف طائفي بامتياز.. إلا ان الخلل لازال هناك حيث الاستعداد الكبير لدى العرب في القتال تحت راية الطائفة القاتلة والمقتولة على الرغم من أن الثمن يعني دمارا شاملا لجماعات وطوائف ظلت تتعايش طيلة قرون.. وهي تدرك او لا تدرك ان مخطط دويلات الطوائف المذهبية والدينية سيكون الإعلان الكبير عن موت كيان كان يسمى العرب. مشروع التخلص من تبعات الحروب وكوارثها لا يمكن أن يتصدى له من تلوث عقله بوعي الطائفة، بل يقدمه عقل يدرك أنه آن أن ترفع للإنسان راية.. وأن يتمثل طريقاً لن يبتدعه من جديد.. فقد كان محطات شاقة في سيرة أمم سبقتنا، أدركت من الدرس التاريخي أن قانون احترام الإنسان وتقدير كينونته والعمل من أجل حقه وكرامته هو مهماز النهوض.. أما الذوبان في حسن الطوائف التاريخية والنفخ في رمادها لن يكون إلا تسعيراً آخر وتعطيلاً أكبر عن محطة الوصول..

مشاركة :