استمع د. نسيم الخوري أفكّر بتعريف حروب العرب وكوارثهم المستوردة. تلك حروب لا هوية لها. هي ليست بالحروب الكبرى أو التقليدية المعلنة ولا هي بالحروب الباردة المعروفة الأسباب والأحداث والنتائج. هي ليست حروباً أهلية أو طائفية محضة أو حروباً عالمية صغيرة بنسخ متعددة فوق أرضنا وقد ذقنا بعضها في لبنان، وأسماها غسّان تويني لبنانياً حروب الآخرين على أرض لبنان. إنّها شيء من هذا كلّه مزداناً بالفوضى الشاملة التي تمحو التواريخ، وترهّل الحكمة، وتشوّه الأديان، إلى حدود القول بأنّ العالم، بغربه وشرقه وبأنساق العيش فيه وأطماعه، صار مشغولاً بهندسة هويتنا ومستقبلنا ملقياً كوارث الدنيا علينا حيث لا استقرار بعدما شلّع أبوابنا وصرنا في مهب الرياح العاتية من جهات الدنيا. تلك حروب يبرز فيها تهديم العواصم العربيّة التي كانت شعوبها تعتدّ بجذورها التاريخية الضاربة في عراقة التاريخ القديم وتنهض حضارة العواصم الحديثة المتألّقة الفاتنة التي تسبق جذورها ومظاهرها العمرانية حركة المستقبل والعالم حيث لا حدود لها ولا توقّف، لا يحيّرها سوى تكالب الدنيا على تلويث ماضيها الديني والإنساني. وأفكّر بضخامة الاستبداد والحقد العالمي اللاحق بالعرب على المستويات كلّها. واقعياً تنكشف مرارات وتعقيدات المناخ العام بعدما صعب تفكيكه فتشلّع، أو إعادة تلحيمه وجمعه إلاّ بالعيش مع المزيد من أسوأ مراحل الويلات والحروب والتلطيخ والتشويه. ويبدو العرب مشتّتي العمران والأفكار والجماعات وفي الأشكال والمضامين يستحيل عليهم إعادة صيغة الجمع، مع أنّ إشراقات التاريخ العربي والإسلامي ليست بهذه الصور البشعة التي تظهر؟. سؤال أصعب: هل كان العرب حضارة لا حدود لها وصاروا بفعل الاستبداد المتعدّد الهويات والأساليب عربين وأكثر؟ الجواب بملاحظة لغوية طريفة ذات مدلول حضاري قفزت أمامي حول هذا الفعل الماضي الناقص أعني كان: تنتسب كان وأخواتها: أمسى، أصبح، أضحى، صار، ما زال، ما برح، ما أنفك...إلخ إلى رحمٍ لغوي واحد أو ما يعرف بالعربيّة بالأفعال الماضية الناقصة. وبالمقاربة الأفقيّة البسيطة، يمكن السؤال عن معنى الفعل الماضي الناقص الذي نجده ربّما ينتظر الحاضر أو المستقبل كي يكتمل أو يلحق به، لكن أن يجتمع هذا الماضي بنقصه وتعثّره أو بطئه ليجذب الحاضر والمستقبل إلى خانته فمسألة تحتاج إلى ما يتجاوز الرياضيات الحديثة بحثاً عن إيجاد البراهين المنطقيّة. قد يفترض الباحث أنّ الزمان عرف اكتماله، بهذا المعنى، مع بدايات الأديان التوحيدية، وبشكل خاص مع الإسلام الذي أخرج العرب من حياتهم القبلية التي اكتست وهجها وحضارتها سمات خاصّة، بما فيها تساوق الماضي والحاضر والمستقبل الذي يستظلّ زمن الوحي. أفكّر أكثر بكلمة العرب التي ترتكز أساساً إلى جذر عظيم هو العين والراء والباء. ولو ذهبنا في تركيب ما يشتقّ من هذا الجذر الثلاثي لوجدت أمامك أوّلاً: برع والبراعة بمعنى الحذاقة التي يسيل منها الذكاء الخارق والمبادرة وهذا متوفّر في تاريخ العرب القديم وفي عراقة الشرق عندما كان العالم كلّه غارقاً في عصور الانحطاط والظلام. ولوجدت أمامك ثانياً: ربع وتشمل الربوع الترابية والمائية والسماوية التي لا يشبع النظر والنفس من التحديق فيها ومنها تصبح تلك البقعة مخزن الصبر والأدب وحسن الطوية واللطافة وتهذيب الشعوب التي لا تفهم بالانتماء. ولوجدت أمامك ثالثاً: عبر التي تعني العبور ومن يعبر تلك الربوع والأرجاء الغنيّة الشاسعة يشعر بنفسه وكأنّه في السماء بقرب الخالق العظيم الذي كوّن السماء والأرض ووضع بين يدي أهلها طاقات الشمس والقمر والأفلاك التي يلهث وراءها العالم البارد بحثاً عن طاقات بديلة. وتجد أمامك رابعاً: رعب الذي هو رعب العالم وجشعه وقساوته بعدما خصّ الله أرضنا بكلماته الثلاث التوحيدية وخيراته وقيمه وبساطته التي لا حدود لها. بلغ العرب ربّما حدود الرعب بعدما أدمن العالم بالنظر إلى أرضهم كميادين تحقير واختبار للحرائق، مع أنّه بتعذيبهم المفرط وانتفاخ خزائنهم تفاعلوا مع الدنيا مختارين أو مكرهين وكانوا يضعون أمام أعينهم ما يلي: لا يكفي الماء كي تصبح البذرة شجرة قويّة معمّرة تضرب جذورها في أعماق الأرض، كما لا تكفي الأموال والثروات كي تصبح الدول الضعيفة قويّة عريقة في الحضارة والتاريخ. يكفي للعين العالمية وللعقل العربي والإقليمي أن ينظر إلى مدن الخليج كلّها وفي رأسها دبي وأبوظبي كي يفهم قدرات العقل والطموح في بناء المدن السوبر حديثة في زمنٍ تتساقط فيه أحجار العرب المنقوشة منذ بابل حيث مرّ الفراعنة والفرس وعرب اليمن والرومان والإغريق والصليبيون والمغول والتتار والبربر والأتراك ودول العالم المعاصر كلّها بكلّ مطامعها واستراتيجياتها وجيوشها. يمكن فهم سقوط بعض الأنظمة، لكن لا يمكن فهم تحطيم الجغرافيات وبعثرة المجتمعات وهدر الميزانيات وتحويل أرض التوحيد إلى خرائب ودفعها قروناً إلى الوراء في نصف عقد. وبسؤال بسيط: ماذا يعني محو التاريخ بكلّ معالمه الحاصلة اليوم في أنحاء العرب سوى تصليب يهودية إسرائيل؟
مشاركة :