شكلت الهجمات صدمة مماثلة لهجوم بيرل هاربر في السابع عشر من ديسمبر/كانون الأول عام 1941، أذكر ما قاله الأكاديمي الأميركي بروبرت ليبر آنذاك بأنها قلبت رأساً على عقب البيئة الأمنية الدولية؛ لأن طبيعة التهديد مختلفة جذرياً، فقد أصبحت فجأة حقيقة تجبر الولايات المتحدة على تبني استراتيجية شاملة جديدة. وضع جورج بوش في إطار تلك الاستراتيجية أسس عقيدته في السياسة الخارجية، أي الحرب الوقائية، بهدف اجتثاث الإرهاب والتهديد الذي تمثله أسلحة الدمار الشامل. أدركت الولايات المتحدة بعد الأحداث حجم تجاهلها لضخامة المشكلات التي تعاني منها المجتمعات العربية والإسلامية، وكذلك تكلفة التناقضات التي وسمت سلوكها في هذا الجزء من العالم، لا سيما تحالفها التاريخي مع المملكة العربية السعودية (مصدر أساسي لتمويل الجماعات الجهادية، حسب تصريحات مسؤولين في الاستخبارات الأميركية ومنشورات بعض المراكز البحثية الأميركية)، التباعد بين إسرائيل والحلفاء العرب للولايات المتحدة، ودعم الأخيرة لأنظمة قمعية شكلت على المدى الطويل جزءاً من المشكلة، بسبب الركود السياسي والاقتصادي، وبسبب سياساتها التي فاقمت النزعة العدائية للولايات المتحدة، بناء على ما سبق، لم يعد الستاتيكو ضامناً لأمن الولايات المتحدة. وجدت إدارة الرئيس جورج وولكر بوش نفسها منذ البداية في موقع تناقض، فخطابها عن ضرورة الديمقراطية في العالم العربي كان موجهاً بالدرجة الأولى إلى الحلفاء، في حين أن الخصوم كانوا مهددين بالقوة العسكرية، إن لم يستجيبوا لمتطلبات الولايات المتحدة (المستجدة)، تم فرض قانون محاسبة سوريا من قِبل الكونغرس في عام 2003، وتصديقه من قِبل السلطة التنفيذية في العالم التالي، ضغوطات أميركية متواصلة على إيران تتعلق ببرنامجها النووي، أما ليبيا فقد استبقت أي خطوة أميركية بالتراجع عن برنامجها النووي في عام 2003 بعد الغزو الأميركي للعراق. لقيت الإرادة الأميركية بالتخلي عن الستاتيكو وإعادة تشكيل الشرق الأوسط من خلال تعميم الديمقراطية دفاعاً مستميتاً من قِبل أيديولوجيّي المحافظين الجدد والقوميين (رامسفيلد وتشيني) الذين لعبوا دوراً أساسياً في سياسات إدارة بوش الأولى، بالنسبة لهم، إيجاد الحلول للتأخر السياسي والاقتصادي في المنطقة أصبح أولوية للاستراتيجية الأميركية، لا بل قضية حيوية.. فهذا الإقليم في حالة عطل كامل، وهو بحاجة لعلاج بالصدمة، أحد مُنظّريهم ويليام كريستول اعتبر أن مشكلات العالم العربي أصبحت مشكلات أميركا ذاتها، ولذلك تتطلب مصالحها ومهمتها العالمية نشر الديمقراطية، فهذه الأخيرة ليست فقط نظام حكم، بل انتماء هوياتي لمعسكر الديمقراطية، مقابل معسكر الإرهاب. بالإضافة لتنظيرات لكريستول، ألهمت كتابات برنارد لويس المحافظين النافذين في إدارة بوش، اعتبر لويس أن فشل النخب الحاكمة المحلية في بناء دول حديثة خلق نوعاً من الحنق تجاه العالم الأنجلوساكسوني، وأن التسلط وغياب الحريات هما السببان الرئيسيان لإخفاقات العالم الإسلامي، هذا "الحنق اللاعقلاني" لا يعود في جذوره للسياسات الغربية، بل لأسباب تاريخية تتعلق بفشل العالم الإسلامي في التموضع في مقدمة الأمم والأديان، ذهب أبعد من ذلك بدعوته للغزو من أجل نشر بذور الديمقراطية، وجدت أفكاره آذاناً مصغيةً لدى بول وولفويتز، الذي قال خلال في خطاب له في تل أبيب في عام 2002 : علمنا برنارد لويس أن نفهم التاريخ المعقد والهام للشرق الأوسط وأن نستخدمه كدليل لنا في المرحلة المقبلة من أجل بناء عالم أفضل للأجيال القادمة. كتب لويس في عام 2004 أنه إذا نجح الرئيس بوش في قلب الأنظمة في دول محور الشر، فإن الاحتفالات فيها ستتجاوز ما حصل في كابل بعد طرد طالبان، وأن غزو العراق سيخلق حياة جديدة، كما أن المؤتمر الوطني العراقي، بزعامة أحمد الشلبي، سيعيد بناء بلد جديد، باختصار قلب نظام صدام حسين هو الخطوة الأولى على طريق إعادة رسم الشرق الأوسط الجديد. شكل موقع المملكة السعودية في السياسة الأميركية موضوعاً لنقاشات عميقة في واشنطن بعد الهجمات، تمحورت حول تقديم بدائل للبترول السعودي، فيما اقترح البعض أن تنهي واشنطن تحالفها مع الرياض، أو حتى تقسيم المملكة، فهي المسؤولة عن صعود التطرف في المجتمعات الإسلامية، حسب فرانسيس فوكوياما، من المفيد التذكير بأن فكرة استخدام القوة لتحطيم السعودية برزت بعد الصدمة البترولية عام 1973، كجزء من أفكار لتقسيم المملكة نُسبت لهنري كسنجر. فيما أعاد المحافظون الجدد طرح هذه الفكرة كسيناريو محتمل بعد هجمات سبتمبر، لكن ذهب الأميركيون بدلاً من ذلك إلى العمل على منع استخدام العوائد البترولية في تمويل الشبكات الإرهابية في الشرق الأوسط وآسيا، وعلى تخفيض الاعتماد على البترول السعودي، طرح هؤلاء أيضاً مع نظرائهم موضوع الوهابية في المجتمع السعودي، فيما اعتبر بعض الخبراء المقربين من إدارة بوش أن هذه النقطة تقع في قلب المشكلة المتعلقة بما اعتبروه إصلاحاً ضرورياً للإسلام، لكن عمق العلاقات بين البلدين والصلات الشخصية شكل عامل ضغط على قرارات الرئيس بوش، وخفض من هامش المناورة أمام إدارته، إضافة إلى ذلك لم ينسَ الأميركيون أن سقوط الشاه في إيران أدى لقيام نظام معادٍ لواشنطن في طهران. لقد كان الرئيس بوش أول رئيس أميركي يتحدث عن دولة فلسطينية مستقلة في المناطق المحتلة، لكن الشرط هو محاربة الإرهاب وقيادة فلسطينية بدون ياسر عرفات، فيما استمر أمن إسرائيل كأولوية للولايات المتحدة، إلا أن العنصر الجديد الذي طرأ عليها بعد الهجمات هو اعتبار كل منهما لنفسيهما في حالة حرب على الإرهاب، فحرب واشنطن على إرهاب الإسلام المتطرف مماثلة لحرب إسرائيل على الإرهاب الفلسطيني، وللدولة العبرية الحق في تطبيق استراتيجية شرعية لحماية أمنها تتيح لها تطبيق نظرية تغيير النظام، والمقصود طبعاً كان السلطة الفلسطينية برئاسة ياسر عرفات. تطابقت الرؤى بين شخصيات المحافظين الجدد النافذة والليكود الإسرائيلي حول اعتبار اتفاقات أوسلو خطأً, أنه لا أمل يُرجى من عرفات، وأنه كأسامة بن لادن في عيون أرييل شارون (وأن السلطة الفلسطينية مركز للإرهاب واستخدام القوة معها هو الحل الوحيد) نُحيل الأعزاء القراء إلى الوثيقة الشهيرة A Clean Break: a new Strategy for Securing the Realm التي صدرت في العام 1996. استثمرت إدارة الرئيس بوش هجمات سبتمبر من أجل تطبيق برنامج موضوع مسبقاً كرفع الميزانية الدفاعية، وتغيير النظام العراقي الذي لم يكن ممكناً لولا وقوع تلك الهجمات، كل ذلك في إطار حرب على الإرهاب، ترافقت مع تعرية تدريجية لقدرة واشنطن على فرض إرادتها عالمياً وإقليمياً. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :