عالم ما بَعد بَعد الحرب الباردة

  • 9/21/2016
  • 00:00
  • 25
  • 0
  • 0
news-picture

وقعت حوادث كبيرة خلّفت صدمات بارزة في الأعوام الأولى من القرن الحادي والعشرين. ويبدو أن عجلة التاريخ تدور مجدداً، وتطوى مرحلة ما بعد الحرب الباردة التي حسِب فيها المراقبون أن غلبة ديموقراطيات السوق رجحت من غير منازع. ففي البدء، وقعت هجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001 في الولايات المتحدة، ثم انهارت العولمة في 2008 (الأزمة المالية المعولمة)، وانتقلت عدواها الى منطقة اليورو. وانشغل القادة بالاقتصاد. وعلى رغم أن المشكلات البنيوية لم تحل بَعد، أفلحت أوروبا في تجنّب أزمة كبرى تحاكي أزمة 1930، وتفادي انفراط عقد منطقة اليورو. لكن الغرب أساء تقدير انبعاث الأهواء السياسية من أنقاض أيديولوجيات القرن العشرين، وتحديداً الأهواء السياسية الأقوى على قول ألكسيس دو توكفيل، أي القومية والغلواء الدينية. وفي 2010، طوت سلسلة حوادث أكثر فأكثر مرحلة ما بعد الحرب الباردة: بروز «داعش»، واستيقاظ الإمبراطوريات وانبعاثها، وانفجار الشرق الأوسط، وتوالي الهجمات الإرهابية في أصقاع العالم، وأزمة المهاجرين، والبريكزيت... والديموقراطيات تجبه اليوم أنظمة بديلة تلفظ قيم الغرب وتحتج عليها. وحلت محل الدول الشمولية أنظمة تعرف بـ «ديموقراتور»، وهي تمزج بين إعلاء شأن القائد القوي والاقتصاد الموجه شأن المجتمع ووسائل الإعلام من جهة، وبين القومية والشعبوية، من جهة أخرى. وهذه الأنظمة سائدة في الصين وروسيا وتركيا وهنغاريا (المجر) والفيليبين. واستؤنفت دورة العنف والحرب حتى في أراضي الأمم الحرة. فالأمن صار مسألة مركزية تتصدر أولويات المواطنين وقادتهم، بعد أن كان ثانوياً، في ما خلا في الولايات المتحدة. والقرن العشرون ابتُلي بحربين عالميتين شُنتا باسم أيديولوجيات. لكن فظاعات الحربين هاتين أدت، في النصف الثاني من القرن العشرين، الى تأطير العنف نسبياً. وصار حكراً على الدول، وساهمت في الحد منه (العنف) الثنائية القطبية في العالم، وتوازن الرعب النووي، وإنشاء الأمم المتحدة. وفي الديموقراطيات، رسخ السلم الداخلي مع تطور دولة القانون وأنظمة الحماية الاجتماعية. واليوم، تتغير طبيعة الأخطار وقوتها. وصارت الحرب هجينة، فهي في آن واحد حرب أهلية وحرب ما بين الدول، فهي حرب داخلية وخارجية. ولا تتقيد هذه الحرب بحدود الدول وتمتد في الزمن، وتتوسل الحيز السيبيرنيطيقي وكل أدوات العولمة ووسائلها. وسورية هي نموذج الحروب الجديدة، على نحو ما كانت حرب إسبانيا مختبر الحرب العالمية الثانية. ووجدت الأنظمة الديموقراطية التي حسِبت أن التاريخ انتهى إثر انهيار الاتحاد السوفياتي، نفسَها، وعلى حين غرة، في قلب ما لم تعد له. وكانت الولايات المتحدة أول من نزل به الإرهاب في هجمات أيلول، ثم توالت فصول الكوارث مع توسع جورج بوش العسكري والسياسة النيو – انعزالية او الانعزالية الجديدة التي انتهجها باراك أوباما. والى 2015، كانت أوروبا تنزع سلاحها وتقلّص موازناتها العكسرية، على رغم توالي الإنذارات. وتربعت فرنسا في صدارة أهداف «الجهاديين». فمنذ كانون الثاني (يناير) 2015، وقع ضحية الهجمات الإرهابية أكثر من 230 قتيلاً ونحو 800 جريح. وهي ثالث دولة مستهدفة بالإرهاب خارج ميادين الحروب المفتوحة. ويساهم إنكار وجود مشكلة في تأجيج الخوف وينفخ فيه، فتتعاظم الشعبوية ويقتنص المتطرفون مخاوف السكان. وجبه الأخطار يقتضي حلاً واسعاً لا يقتصر على حل أمني أو حل وطني النطاق. فالحركة «الجهادية» خطر مزدوج في الداخل والخارج. فهي تسعى الى إشعال نيران حرب أهلية في المجتمعات الغربية، في وقت تنشئ «خلافة» على أنقاض الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وتتوسل الحركة هذه بشبكات التواصل الاجتماعية لنشر البروباغندا وتجنيد المتطرفين وبث التطرف. وحريّ بفرنسا والغرب انتهاج استراتيجيات جديدة ومختلفة، في وقت يتغير وجه العالم، وهما جزء منه. وتمس الحاجة الى مقاربة شاملة تنسق بين السياسات العامة وبين المواطنين والشركات. ويجب الحفاظ على وحدة أمم العالم الحر التي تجمع بينها قيم مشتركة، على رغم اختلاف مصالحها. لكن الأنظمة الديموقراطية محافظة وسلمية. لذا، تتأخر في التكيف مع الطوارئ الأمنية. والاتحاد الأوروبي تهزّه أزمة سياسية ووجودية، وتأسيسه مجدداً إثر البريكزيت (اقتراع بريطانيا بالانسحاب من الاتحاد الأوروبي) ضرورة لا غنى عنها وإلا قد ينفرط عقده. ويؤيد المواطنون التعاون الأمني في أوروبا، لكن الاتحاد الأوروبي خالي الوفاض من استراتيجية أمنية. وأزمة المهاجرين كانت خير دليل على الافتقار الى مثل هذه الاستراتيجية: فتح الحدود من غير قيد أو شرط أدى الى تشييد جدران، وإغلاق طريق البلقان وجّه سيل اللاجئين الى المتوسط وإيطاليا، فكثرت أعداد الغرقى. والاتحاد الأوروبي صدع بابتزاز رجب طيب أردوغان الذي يرى أن ضعف أوروبا هو فرصة سانحة أمامه لتسريع وتيرة تحوّل تركيا الى نظام «ديموقراتوري». واليوم، مع بدء دورة انتخابية في أوروبا، تمس الحاجة الى إحياء الاتحاد الأوروبي. وإثر كارثة الاستفتاء الإنكليزي على الانفصال، تكرّ سبحة فصول وحوادث بارزة مثل إعادة الانتخابات الرئاسية في النمسا، والاستفتاء الدستوري الإيطالي، وانتخابات الرئاسة الفرنسية في أيار (مايو) 2017، وتليها الانتخابات التشريعية في ألمانيا في الخريف. والقادة الأوروبيون مدعوون الى اقتراح مشروع جديد يغير وجه الاتحاد الأوروبي. فالآباء المؤسسون للاتحاد هذا في الخمسينات، أعادوا تشكيل القارة الأوروبية وأرسوا القانون واقتصاد السوق والسلام بين ألمانيا وفرنسا، نواةً لها. واليوم، يجب إرساء أوروبا الأمن، وأولوياتها ثلاث: مكافحة الإرهاب الإسلامي، حماية البنى التحتية الأساسية، والسيطرة على الحدود الخارجية. ويسعى التقرير الصادر عن معهد مونتانيْ وهو من إعدادي، الى تحويل جهاز «فرونتكس» الى حرس الحدود الخارجية الأوروبية. وأفكار مثل تأسيس جهاز «أف بي آي» أوروبي ضعيفة الصلة بالواقع: فمثل الجهاز هذا قد يتحول الى وحش بيروقراطي سرعان ما يتعثر بتنوّع الإجراءات وتباين المؤسسات القضائية الوطنية. وتركيا وروسيا إمبراطوريتان وازنتان تثقلان على أوروبا منذ قرون، وتؤثران فيها. ففي أكثر من مرة، هددت الواحدة منهما سيادة أوروبا وحريتها. وكلاهما أوروبي وآسيوي، في آن. واليوم، يسود فيهما نظام «ديموقراتوري» على رأسه مستبد ينفخ في المشاعر القومية والعقيدة الدينية، سواء كانت أرثوذكسية أم إسلامية. وتمس حاجة أوروبا الى صوغ استراتيجيات متماسكة وطويلة الأمد في التعامل مع روسيا وتركيا، والى تصدّر أولوياتها الدفاع عن سيادتها ومصالحها. وروسيا ليست بوتين فحسب، وتركيا ليست أردوغان. وعلى أوروبا إرساء علاقات قوة مع دول لا تفهم غير سياسة القوة وفرض هيمنتها وإرادتها على أوروبا وغيرها. وفي الإمكان التعاون مع موسكو على جبه الحركة الجهادية حيث تلتقي المصالح. ومن الأولويات عدم رفع العقوبات التجارية عن روسيا قبل وقف تدخل الجيش الروسي في أوكرانيا. وتقضي المصلحة الروسية والأوروبية بعقد شراكة طويلة الأمد: فالأولى هي مصدر الطاقة والمواد الأولية، والثانية هي منبع كفاءات وتكنولوجيا متطورة ورؤوس الأموال. ويجب السعي الى عدم تقويض الشراكة هذه الحريات في أوروبا.   أحوال فرنسا الأمنية الاستخبارات الفرنسية مؤلفة من 6 أجهزة كبيرة مرتبطة بثلاث وزارات منفصلة. وتوزيع الأجهزة على أكثر من وزارة يؤدي الى تشتّتها وتناثر عملها. وإلغاء فرنسا الاستخبارات العامة حرمها من عمق استخباري في كامل الأراضي الفرنسية. ولا يسع فرنسا الإفلات من إعادة تنظيم أجهزة الاستخبارات وإنشاء مجلس أمن وطني يتبع رئيس الجمهورية ومركز قيادة العمليات تابع لوزارة الداخلية. ويعود الى الرئيس في الجمهورية الفرنسية الخامسة، البت في الأولويات الاستراتيجية، والى الحكومة تنفيذ هذه الأولويات. ويفترض أن يساعد مجلس الأمن الوطني الرئيس في بلورة استراتيجيا أمنية شاملة. ولن يحل المجلس هذا محل وزارات تتولى مسؤوليات عملانية. والأمن الداخلي لا يزال مكمن ضعف في فرنسا. ولا يسعها بعد اليوم اللجوء الى إجراءات بائتة. وتقتصر موازنة الأمن الداخلي على 0.7 في المئة من الناتج المحلي، وموازنة الدفاع على 1.5 في المئة منه. وموازنة القضاء بائسة ولا تليق بدولة ديموقراطية متطورة. ويدعو تقرير معهد مونتانيْ الى العودة الى الاستثمار في مؤسسات الدولة السيادية، ورفع موازنة الأمن الداخلي الى 1 في المئة من الناتج المحلي وموازنة الدفاع الى 2 في المئة من اليوم الى 2025. والأولوية اليوم هي زيادة تمويل الاستخبارات والاستثمار في الجيوش، وتمس الحاجة الى تمويل رفع عدد الجنود، وتطوير العتاد وصيانته وتجديد الردع النووي (2 بليون يورو سنوياً بدءاً من 2020).     * محلل، عن «ليكسبريس» الفرنسية، 7/9/2016، إعداد منال نحاس

مشاركة :