يا معالي الوزير، والله إنّ العقلاء منا يرون لك عقلاً يرجون نفعه ويخافون عليه من طغيان بهرجة الاستشاري الأجنبي. فقد افتتن قومنا بالمستشار الأجنبي. فالأصل في المكاتب الاستشارية أن تقوم بما يُسمّى بالعمل القذر « Dirty work» لا بالتخطيط وتدبير الحلول. فليس من وظيفة الاستشاري تقديم الحلول بل هي وظيفة الجهة التخصصية التي استأجرت الاستشاري. فالتخطيط والتدبير مهنة قيادي الجهة المختصة. وهل رأيت حفظك الله، شركة متخصصة في كل المجالات، كالشركات الاستشارية الأجنبية عندنا. فهي اقتصادية وعسكرية ونفطية وصحية وتعليمية وأمنية وهي كل ما يخطر على بال أحد. فلو لم يكن إلا هذا الناقض لكفى به ناقضاً لينقض افتتان قومي بماكينزي وغيرها. فإنما يُستأجر الاستشاري ليسد عمليات تجميع المعلومات وتنسيقها ووضعها في ديكورات عرض مزخرفة. لذا ترى أن ماكينزي وغيرها لم يأتوا قط بجديد، بل هم يمارسون عملهم في الجمع واللصق والعرض. والتعليم خاصة - وأنت أعرف مني - عملية غارقة في الثقافة الإنسانية. ولذا جاءنا الاستشاري الأجنبي في حلول البطالة، بحلول توظيف قد قصها من دول أخرى. فخلق لنا بطالة مقنّعة، مكلفة مادياً وأخلاقياً ومفسدة لبيئة العمل. يا وزير التعليم لا يخفى عليك أنت خاصة من دون الناس، أنّ المشكلة وحلها هي العقل السعودي. إنّ العقل السعودي بغض النظر عن مؤهلات صاحبه، عقل عاجز عن التفكير المنطقي والتحليل المستقل والتمييز المبرر بالأسباب. هي العقول، والتي أرى الحل لها في الجامعات. وقد اقترحت كثيراً أن يُركز الجهد على برامج حقيقية لا تهريجية ، لتطوير واختبار عقول وعلم أساتذة الجامعات. فدكاترة الجامعات يخرجون أستاذ المدرسة والقاضي والإداري والمهندس. وأذكر أني كتبت ثلاث مقالات في برنامج، كمثال على كثرة الحلول. ألا ترى يا معالي الوزير شاهد قولي فيما انتشر عندنا من قول مشهور، قد قُلد من الغرب بلا وعي، يدعي بأن مخرجات الجامعة لا تناسب السوق. أوَلا تدل هذه المقولة على الجهل العام، وعدم القدرة على تمييز السبب من المسبب. وهل كل ما في السوق إلا فضلة الجامعات. لكن الخريج والدكتور ومن يعمل في السوق جميعهم هم أبعد ما يكونون عن فهم المناهج العلمية. فأبرعهم من أجاد تعبئة أبلكيشن مصمم سابقاً، أو من حفظ درساً فألقاه. ولهذا لم تتناسب مخرجات الجامعات مع السوق. نريد جامعات تعلِّم الطلبة كيف يفكرون لا تلقنهم ماذا يفكرون. ولا أزعم أننا سنحقق هذا في كل دكتور وطالب، ولكن متى حققناها في قلة ، فهذه القلة هي التي تكون من يقود الآخرين. فإنما يقود شعوب العالم المتطور قلة ذات عقول مفكرة . وقد وصلنا لدرجة من الانحطاط أنه حتى التلقين للعلوم لم تعد جامعاتنا تقوم به. وأما حال أساتذة الجامعات، فحال ذو شجون مبكية مضحكة، لا يتسع المقال له. إن التحول للمستقبل يجب أن يبدأ ببرنامج الاهتمام بالعقل السعودي، ومحل بدايته الطبيعية من الجامعات، لا من برامج التوظيف الوهمي ولا من بناء مصانع مقلّدة لا نعرف كيف نطور ما تصنعه. هذا هو مشروع التحول الذي تحتاجه بلادنا. وأسألك بالله، هل رأيت دولة صعدت من التخلف الحضاري لتنافس في حضارة المستقبل إلا بفكرها، وبرنامجها الخاص بها. سواء بعد قرون من الكفاح كأمريكا والغرب، أو بعد أن كفرت بحلول الأجنبي في بدايات نهضتها، ككوريا ودول آسيا. وألمْ تر إلى الدول التي ظلت مفتونة بالمستشار الأجنبي كأمريكا اللاتينية وغيرها لا تزال في مؤخرة الرَّكب. وهل ترى من نفع أدرك أبناء دول أخرى استجلبت الأجنبي في هجرة جماعية حتى غابت الهوية الوطنية عنها. إنّ مستقبل البلاد بيدك يا معالي وزير التعليم، وما مشاريع التنمية الأخرى إلا وسائل مؤقتة توفر المال وتؤمِّن الحاجات حتى يتم مشروع إصلاح العقل السعودي. فإن لم يكن هناك مشروع جدِّي عملي لإصلاح العقل السعودي، أو هناك مشروع وفشل، فمشاريع التنمية كلها مصيرها للفشل والزوال، فاحمل الهمّ يا معالي الوزير، فقد حُملت والله، وِزراً ثقيلاً بثقل هذه البلاد.
مشاركة :