عاصر الشيخ عبد الله بن محمد الحسيني أحد رواد التعليم في بلاده، الدولة السعودية الحديثة، بدءًا من الملك المؤسس مرورًا بالملوك سعود وفيصل وخالد وفهد وعبد الله، رحمهم الله، وعهد الملك سلمان بن عبد العزيز حفظه الله. وتحمل ذاكرة الحسيني قصصًا كثيرة، باح بها في سيرته التي صدرت قبل أشهر، تؤكد على ما يتمتع به الملك عبد العزيز وأبناؤه من عقول يقظة وسرعة بديهة وحكمة وإنسانية وحزم وعزم، في كثير من المواقف. «الشرق الأوسط» التقطت بعض هذه القصص التي تحمل دلالات هامة. آيات قرآنية تحول الأعداءإلى أصدقاء يقول الحسيني في تأكيده على سرعة بديهة الملك عبد العزيز وحضوره ورجاحة عقله ودهائه: إن الملك المؤسس عبد العزيز آل سعود (رحمه الله) كان حقًا أحد دهاة العرب الأفذاذ ذوي البأس والشجاعة. وكان (رحمه الله) سريع البديهة ذا عقل يقظ. في إحدى زياراته لمدينة الجبيل وقت سعيه لتوحيد الجزيرة برفقة وفد من الإنجليز، حان وقت صلاة المغرب، فقام أحد الشيوخ بالأذان للصلاة، ثم أمّ الناس فقرأ قوله تعالى: «وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسّكُمُ النّارُ وَمَا لَكُم من دُونِ اللَهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَ لا تُنصَرُونَ»، فكان أنْ سحبه الملك عبد العزيز وتقدم هو يصلي بالجماعة، فقرأ سورة الكافرون. المعنى الذي فهمه الملك عبد العزيز من الآية التي قرأها الشيخ بسرعة كان كافيًا من وجهة نظره ليرسل رسالة سيئة إلى الوفد الذين كانوا معه من الإنجليز، إذا فَهموا معنى الآية جيدًا؛ ولذا أراد أن يغير المسار أيضًا بآيات أنزلها الله سبحانه في محكم قرآنه، توضح احتواء الإسلام لأصحاب الديانات الأخرى وتمنحهم الحق في اعتناق ما يشاءون؛ لأن الإسلام لا يجبر أحدًا على اعتناقه، كما أنه لا يعتبرهم أعداءً طالما لم يعتدوا أو يبادروا بالاعتداء على المسلمين. ولما كان الملك عبد العزيز يسعى في تلك الفترة الحرجة من عمر الوطن لاحتواء الأطراف الخارجية؛ ليكونوا عونًا له في حربه، فإن مجرد وصفهم بالظالمين (كما أراد الشيخ بصلاته) كان سيجعلهم يعتقدون أن الملك يخدعهم وأنه ربما يدبر للخلاص منهم بعد استتباب الوضع له بالجزيرة، وذلك من شأنه بالطبع ضياع كل الجهود التي ظل يبذلها (رحمه الله) لسنوات طوال. كرم وإنسانية وحول ورع الملك عبد العزيز، يشير الحسيني إلى قصة معبرة وشهيرة تدور أحداثها عن رجل من أمراء الهجر الصغيرة في نجد، أتى إلى قصر الملك عبد العزيز في الرياض وله بعض الأموال يحتاج إلى تحصيلها من الدولة، وكان لا بد أن يقابل الملك عبد العزيز ليشرح له الوضع وليوافق على صرفها له، ولأن الملك عبد العزيز (رحمه الله) كانت لديه مسؤوليات كبيرة وزواره كثيرون ويقضي وقتًا طويلاً في قضاء حاجات الناس ومقابلتهم حتى موعد صلاة العشاء، حيث إن من المعروف أن الملك عبد العزيز كان يصلي العشاء وينام بعدها مباشرة، فلم يستطع هذا الرجل مقابلته، فأشار عليه بعض العاملين لديه أن ينام في جناح الضيافة، وفي الصباح يقابل الملك، فوافق وفي الليل أفاق من نومه على صوت شخص يصلي في القصر ويدعو الله ويبكي ويقول: (يا رب.. يا رب ارزقنا.. يا رب ارزقنا..) فأطل من الدريشة (النافذة)، فرأى الملك عبد العزيز يصلي ويبكي.. ففكر وخجل من أن يطلب شيئا من الملك وهو يشكو إلى الله من قلة الحاجة، لذا قرر الرجل الرحيل بعد صلاة الفجر، وبالفعل ركب ناقته ومضى في طريقه عائدًا لهجرته. وبعد الصلاة سأل عنه الملك عبد العزيز، فقالوا له لقد رحل. فغضب الملك وأمر خيالين من رجاله أن يلحقا به ويعيداه بسرعة، وعندما جيء بالرجل سأله الملك عن سبب رحيله المفاجئ، فذكر له ما رآه منه وسمعه في الليل، وكيف أنه خجل من أن يطلب ممن ليس معه. فضحك الملك كثيرًا، وقال له: «كلنا نطلب الرزق من الله.. ويأمرنا الله ونعطيك»، وبالفعل سدد عنه ديونه كافة، وأمر بأن تُحمّل ناقته من مختلف الأرزاق والعطايا. وهذه القصة تدل على سعة صدر الملك عبد العزيز وكرمه وحبه لأبناء شعبه. ذكاء وسرعة بديهة ويورد الحسيني قصة تنم عن ذكاء الملك وسرعة اتخاذه للقرار في المواقف الصعبة، شاهدها المندوب البريطاني أثناء حصار جدة مُدَّة طويلة تراوحت ما بين 6 و8 أشهر، في الحرب التي دارت رحاها قبل توحيد المملكة. جاء المندوب الإنجليزي إلى الملك عبد العزيز، وقال له: (إنّ شريفَ مكة - يقصد الحسين بن علي - يقول عنك: إنك بَدَوِي، ولا تملك شيئا، وأنّ جماعتك يموتون من الجوع).. ولم يُرِد الملك الدخولَ في جِدال عقيم، بلْ استدعى شخصًا اسمه (عقيل) من الرياض، وأعطاه خطابين: الأول لوالدة الشيخ عبد الرحمن السبيعي (حصة السدحان) رحمهما الله، والثاني للسبيعي نفسه، الذي تربطه علاقة قوية بالملك عبد العزيز، وكان السبيعي جارًا للوالد في (شقراء) في حي (الصبخة)، وقد عرف عنه أنه كان يُشَكِّل مركزًا ماليًا للملك عبد العزيز، وأمره ألا يرجع إليه إلا بجواب منهما، وكان الهدف جَمْع أكبر قدر من المال والذهب من رجال ونساء (شقراء)؛ كي يكون ذلك ردًا عمليًا على الإشاعات التي يُرَوّج لها الحسين بن علي. ونظرًا لمكانة السبيعي في منطقة (شقراء)، وثقة رجالها به، ومكانة والدته، فلم يكن هناك أفضل منهما لأداء هذا الأمر. وعندما وصل (عقيل) إلى (شقراء) سلّم الخطابين كما أمره الملك المؤسّس، ثم راجعه بعد مُدّة؛ فأبلغه السبيعي أنَّ جميعَ أهالي (شقراء) رجالاً ونساءً يجمعون الأموال والذهب، واستغرق ذلك وقتًا، ونصحه أنْ يمرّ عليه بعد يومين. وكانت فرصة سانحة لـ(عقيل) أنْ يذهب إلى الرياض؛ لرؤية أهله والاطمئنان عليهم قبل أن يعود بالمال والذهب إلى الملك عبد العزيز، وعندما دقّ الباب على زوجته لم تُصدّق أنه هو زوجها الذي خرج للجهاد مع الملك عبد العزيز، وهو يخبرها، ويؤكّد لها أنه هو نفسه الواقف بالباب، وبعد أخذ وردّ طال أرهق (عقيلاً) نفسه، تأكدت الزوجة المخلصة أنه زوجها؛ ففتحت له الباب، ولم يكن (عقيل) أقلّ حرصًا منها على سمعتها وسمعته بين الجيران؛ لهذا طلب منها أنْ تذهب وتنادي أباها وإخوانها؛ ليشهدوا على وجوده في منزله؛ كي يَدْرَأ عنها الشبهة إذا حملت منه. وبعد ذلك أعاد (عقيل) الكرة ثانية إلى (شقراء)؛ فوجد السبيعي قد جمع الأموال المطلوبة منه؛ فحملها واتجه إلى الحجاز حيث يقيم الملك عبد العزيز. وكان (عقيل) يدرك حجم المهمة التي كُلّف بها، ويعلم أن ما يحمله من أموال ستكون المُعِين بعد الله للملك عبد العزيز في حربه وطموحه نحو توحيد الجزيرة؛ فكان يسير ليلاً وَيَكْتَنّ، أي يَخْتَبِئُ بالنهار، ودامت حالته هكذا عددًا مِن الأيام، وتعرض في أحدها لموقف صعب، عندما اعترض طريقه أحدُ قُطّاع الطرق إلا أن الله سلّم؛ فلمّا وصل سالمًا بالأموال والذهب إلى الملك عبد العزيز في الحجاز، احتضنه (رحمه الله)، وقال له: (الله يبيّض وجهك)، ثم استدعى المندوب الإنجليزي بعد أنْ وضع شحنة من الرمل تحت البساط، ثم وضع عليها كميات من الذهب؛ وكانت حيلة ذكيَّة؛ مِن أجل إقناع المندوب الإنجليزي بأنّ البدوي الذي يُشاع عنه أنّ جماعته يموتون من الجوع لديه من الأموال ما يجعل جماعته ملوكًا، وهي الرسالة التي أبلغها المندوب الإنجليزي إلى شريف مكة عندما عاد إلى الشريف، وقال له إنّ الملك عبد العزيز لديه كثير من الأموال والذهب الذي يمكن أن يَدْعم به الجنود، وينفقها على الحرب، وذكر له أنّه رأى عنده شحنة من الذهب (وحقيقتها أنّ الذهب وضع من الأعلى، وكان أسفله الرمل)؛ فخاف الشريف، وخرج من الحجاز، ولم يحمل معه سوى أسرته. حزم سلمان وحملت ذاكرة الشيخ عبد الله الحسيني المولود قبل 87 عامًا في شقراء حاضرة الوشم (وسط السعودية) قصة لافتة مع الملك سلمان بن عبد العزيز – حينما كان أميرا لمنطقة الرياض - فيها تأكيدات وإشارات بأن الحزم والعزم والتفاؤل، كانت من طبائعه ولازمته، منذ نشأته وإلى اليوم، والتي تمثلت في «عاصفة الحزم» و«إعادة الأمل»، وانطلقت قبل عام ونصف العام من اليوم لدعم الشرعية في اليمن. واسترجع الحسيني من خلالها ذكريات ومشهدًا يعود لأكثر من نصف قرن، عندما قرر الملك سلمان استخدام أسلوب الحزم والعزم مع الحكمة لإعادة أمل أهالي أحد بلدان منطقة الرياض لإلحاق بناتهم في مدرسة رسمية بدلاً من مدارس الكتاتيب والحلقات النسائية، حيث حرص الملك سلمان على نشر تعليم الإناث وعدم النكوص عنه، عقب إقرار هذا النوع من التعليم بشكل رسمي. ويشير الحسيني إلى ما تعرض له عندما وصل إلى البلدة لافتتاح أول مدرسة بصفته مندوبًا لتعليم البنات: «وضعت إعلانًا في السوق ووقعت عقد استئجار المبنى، وأدخلت فيه الأثاث والمستلزمات الخاصة بالمدرسة أمام فرحة الأهالي، وذهبت لأداء صلاة الجمعة لينبري شخص ويخطب أمام جموع المصلين محرضًا لهم على رفض افتتاح المدرسة، لأذهب إلى بيت أمير البلدة وأبلغه بما حدث، والذي أصر بدوره على افتتاحها، وتتوالى الأحداث ويتجمع الغاضبون ومعهم مالك المبنى المدرسي حاملاً عقد الاستئجار مطالبًا بإلغائه، بعد أن هدده الرافضون بإحراق المبنى، ليتطور الوضع ويتمكن الغاضبون من دخول مبنى إمارة البلدة، ويعتدوا على الأمير وعلى مندوب التعليم، ويجبر على حمل أثاث المدرسة ومغادرة البلدة. وزاد الحسيني بالقول: جئت للرياض وقابلت الرئيس العام لتعليم البنات، وشرحت له الوضع، واصطحبني معه للأمير فيصل بن عبد العزيز (ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء آنذاك) حاملاً برقية أمير البلدة بشأن ما حدث، وسلمها إلى الأمير فيصل، وحولت البرقية إلى الأمير سلمان أمير منطقة الرياض حينها، الذي بدوره أبرق عاجلاً إلى أمير البلدة باعتماد فتح المدرسة ويكون الدخول فيها اختياريًا لا إجباريًا، ونفذ توجيهات الأمير فيصل بإرسال قوة عسكرية مكونة من مائة جندي من قوات الصاعقة لتأمين افتتاح المدرسة بسلام. وجاء هذا الحزم من قبل الملك سلمان لقناعته بأهمية نشر التعليم وعدم التراجع عن ذلك، بل إنه رفض السكوت عما حدث، باعتبار أن الصمت عن ذلك من شأنه اهتزاز هيبة الدولة في نفوس الناس، وأن الحزم في هذه المسألة هو الحل، لكن دون عنف، وهو ما تأباه الدولة في علاقتها مع المواطنين. وبالفعل تم افتتاح المدرسة وتهافت الأهالي على تسجيل بناتهم فيها. يقول الشيخ الحسيني عن ذلك: «عندما قرأتُ كغيري من الناس الأخبار المتداولة عن (عاصفة الحزم) و(إعادة الأمل) عادت بي الذاكرة إلى أكثر من خمسين عامًا حيث تشرّفت حينها بمقابلة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز للمرة الأولى في حياتي، في وقت عصيب بالنسبة لي؛ فقد كنت وقتها مندوبًا لتعليم البنات، ولم تكن الأجواء متقبّلة تعليم الفتاة في ذلك الوقت كوقتنا الحاضر. في عام 1383 هـ (1963) تمَّ تكليفي بالذهاب وأنا بالرياض إلى إحدى بلاد وطننا الغالي لافتتاح أوّل مندوبية لتعليم البنات هناك؛ ففوجئت برفض كثير من الأهالي لافتتاح المدرسة، وحدث أن قام أحد المجتهدين - وما كل مجتهد مصيب - بعد صلاة الجمعة خطيبًا فيهم متوعدًا بأنهم لو ارتضوا تعليم بناتهم فإنهم كمن يرضى لهن الخزي والعار!!. وتعرضت وقتها للاعتداء والتهديد بإهدار دمي؛ فعدت إلى الرياض سالمًا، وطلبت مقابلة الأمير سلمان (حينها)؛ فوافق مشكورًا، وشرحت له كل ما حدث موضحًا أني دخلت البلدة غريبًا وخرجت غريبًا، ولا أعرف أحدًا باسمه، ورجوته أنْ يتمّ اختيارُ شخص آخر لإكمال المهمة؛ نظرًا لظروفي الخاصة؛ وكان من حكمته وسداد رأيه، وبُعْد نظره أنْ وافق على إرسال زميل آخر مع قوة خاصة؛ لإتمام المهمة، ولردع من يؤلِّب الناس على فتح المدرسة. ولقد كَتَمْتُ كثيرًا مما جرى كي لا يُفسر الأمر بأنني عدت لأنتقم ممن آذوني؛ فيكون في النفوس ما يحول دون التعاون الكامل بيننا لصالح البلاد والعباد. ثم كان قراره الأكثر حكمة؛ وهو الفتح الإجباري للمدرسة، ثم ترك الحرية في التسجيل بها أو عدمه وفق ما يراه أولياء الطالبات». وزاد الحسيني بالقول: «على الرغم مِن حداثة سِنّه آنذاك فإنّ ما رأيته من حكمة في التصرف منه، ونفاذ البصيرة، كان يتعدى أضعاف عمره بكثير؛ فقد رأى أن الصمت على ما حدث، من شأنه اهتزاز هيبة الدولة في نفوس الناس، كما أنَّ الرد بعنف تأباه العلاقة الجيدة القوية بين الدولة ومواطنيها، كما أنّ النكوص عن تعليم البنات ليس في صالح البلاد على المدى القريب ولا البعيد؛ لأنّ حقّ المرأة في التعليم كحق الرجل تمامًا، طالما كان الأمر متّفقًا مع الشريعة الإسلامية، ولا يتعارض مع العادات والتقاليد المألوفة في كلّ مجتمع أمين مع دين ربّه. ثمّ كان لي الشرف مرة ثانية أن التقي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، بعد مرور نحو أربعين عامًا على تلك الأحداث».
مشاركة :