أحاوِلُ في سَفري أن أُجرّبَ أشياءَ غريبةً لم أجرِّبها في السابق، فيما يخُصّ البِحار، ففي العادةِ أكتفي بالسباحةِ فوقَ مياهِ سطْحِ البحْر، والتنزُّهِ على الشاطئ، وربّما الغوصُ قليلاً، بحبْسِ أنفاسي لعدةِ ثوانٍ في داخله، ولا أبتعِدُ كثيراً، وأكتفي بالوصولِ إلى ما قبلَ منتصَفِ الطريقِ إلى الكراتِ الحمراء.. وفي رحلتي الأخيرةِ إلى اليونانِ قُمتُ بتجربةِ الغَوصِ تحت البحر، في البداية قُمنا بالتوقيعِ على مجلدٍ يحوي العديدَ منَ الصفَحاتِ بما فيها خُلُوُّكَ منَ الأمراض، والآلام، وكذلك التوقيعِ على ما يضمَنُ للشركةِ أنكَ قُمتَ بذلك رغبةً منكَ في حالةِ حدوثِ أيّ طارئ تحت أعماق البحر، فأنت وحدَك تتحمّلُ المسؤولية، بعد ذلك تقومُ بتعلُّمِ الإشارات التي تُستخدَمُ تحت البحرِ في حالةِ انقطاع النفَس، أو الحاجةِ إلى الخروج إلى الأعلى، لأجلِ الشعورِ بالألم بسببِ الضغط العالي الذي تُسَبّبُه المياه. في المرحلة الثانية، تتَّجِه إلى غرفةٍ تحوي العديدَ من بدلات الغوصِ لترتديَ قياسَ البدلة الصحيح، ترتدي البدلة، لتكونَ وِجهَتَكَ الأخيرةَ قبلَ التوجُّهِ إلى البحر، غرفة المعدات، لترتديَ النظارات، وقصبةَ التنفس، وأسطوانةَ الهواء، والزعانفَ ووِحدةَ التنفُّسِ وحزامَ الأثقال، ليساعدَك على النزول إلى الأعماق، ومقياسَ ضغطِ الهواء ومقياسَ العمق... معداتٌ كثيرةٌ وثقيلةٌ تُعَلَّقُ على جسدِك، لربما يُقَدَّرُ ثِقَلُها بخمسينَ كيلوغراماً. تدخلُ المياه، وبعدَ تدريبٍ دام نصفَ ساعة، تتَّجِهُ نزولاً إلى الأعماق شيئاً فشيئاً.. كان يتملَّكُني شعورٌ غريب بالخوف والقلقِ في البداية، لكنّني ما إن غاب نظري في الأرجاء، وفتحتُ عينيَّ محاولةً أن أتقصّى كلَّ ما حولي شعرتُ بشيء منَ الفُضول ونسيتُ الخوفَ الذي كان يتملَّكُني، وأنا قريبةٌ من سطحِ أرض البحار الداخلية ومنَ المخلوقاتِ التي تسبَحُ بجانبي، تلك الكثيرةُ الألوان، التي تُبَعثِرُ بألوانها زُرقةَ المياه، وكلّما غُصنا إلى الأعماق قليلاً شعرتُ أنني أدخل عالماً منَ الجمالِ ولا شيءَ غيرَ الجمال، شعرتُ بسكونٍ وراحة، سمعتُ صوتَ أعماقِ البِحار الذي كان يشبِهُ صوتَ الموسيقى الهادئة، شعرتُ بسكون عجيبٍ واستسلمتُ لجمالِ المكان، لصوتِ الأعماقِ ومخلوقاتِه العجيبة، لم أعِش في حياتي أروعَ من تلك الساعةِ التي أدخلَتني عالماً يعيشُ كلُّ مَن فيه بسلام، لا خوفَ، ولا حربَ، فقط سكونٌ غريب، الشمسُ تعكِس ألواناً منَ الفرح لتُضيءَ كلَّ ما في البحار، تلمَّستُ مخلوقاتِه العجيبةَ، وكان أمراً لم أرَ أو أتلمَّس مثلَه من قبل. يا لَعظمة الخالق، الذي خلقَ كلَّ شيء، فأبدع. تُغطي المياهُ ثلثَي سطح الكرة الأرضية، البحارُ عالَم كبيرٌ وضخمٌ ومختلفٌ بشكلٍ كبير عن عالمِنا فوقَ سطح البحر، أتاحت لي هذه التجربةُ فرصةَ اكتشافِ أعماقِ البحار، وأن أسمعَ أصواتَه، ربما كنتُ قد رأيتُ مُسبقاً ذلك العالمَ الكبيرَ في الصورِ والتلفاز، لكنّ الأمرَ مختلفٌ تماماً؛ فتلك التجربةُ علَّمتني أنّ في الكون الكثيرَ منَ الأشياء التي لم أرَها بعد، وأن العِلمَ أوسعُ بكثير ممّا نتخيّلُ، وأن تجارِبَ السفرِ لا يُضاهيها شيء، وأننا مهما رأينا منَ الحياة، هناك العديد منَ الأمورِ التي ما زالَ عِلمُها عند الله وحدَه، ولا نعلمُ عنها شيئاً، علمتني تلك التجربةُ أنه لا بأسَ بشيءٍ منَ الخوفِ ولا بأسَ بالاكتشافِ والمحاولة، علمتني تلك التجربةُ أن بإمكاني أن أفعلَ أكثرَ ممّا أتصورُ، وأن بإمكاني أن أُحلّقَ تحتَ البحار وفوقَ السماء، ورؤيةَ جمالِ الكونِ ومكنوناتِه، رأيتُ في البحار الكثيرَ منَ الأسماكِ والنباتات، والحيوانات، والشُّعَبِ المرجانية والإسفنج الذي هو شديدُ الضخامة ذو لونٍ رماديّ، تلمَّستُها بالضغطِ عليها بيدي تحوَّلَت إلى الأسْودِ وانكمَشت وعادت إلى وضعِها الطبيعيِّ بعد لحظات. رأيتُ الأسماكَ ترتدي أجملَ حُلِيٍّ منَ الألوانِ البهيةِ التي لم أرَ مثلَها من قبل، في السمكةِ الواحدة أكثرَ من سبعةِ أو ثمانيةِ ألوان، رأيتُ النباتاتِ بألوانها البنفسجيةَ والزهريّ والأصفر، والكثيرَ من صغارِ الأسماكِ تسبَحُ سوياً بمجموعاتٍ ضخمة تمرُّ من جانبي فألقي عليها التحية، وأُلَوِّحُ لها بيدي، فتظهرُ أخرى بأحجامٍ مختلفة، وأشكالٍ عديد. تتناقصُ درجاتُ الحرارة كلّما غُصتُ إلى الأعماق، ويكونُ ضوءُ الشمسِ أضعفَ كلّما اتجهتُ إلى الأسفل، لكنّ العديدَ منَ المخلوقات التي بداخل هذا البحرِ تبعثُ نوراً من أجسادِها ذاتِ ألوانٍ بهيجة. بالتأكيدِ سأُعيد هذه التجربةَ بإذنه تعالى، فما رأيتُ وما سمِعتُ في أعماقِ البِحار كانَ الأجملَ على الإطلاق. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :