الخطاب الليبرالي العربي إلى أين؟ 3 - 9

  • 9/25/2016
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

تقديم المترجم: نواصل مع ترجمتنا لهذه الدراسة النوعية النادرة للبروفيسور مائير هاتينا. البروفيسور هاتينا هو أستاذ مشارك، قسم الدراسات الإسلامية والشرق أوسطية، الجامعة العبرية في القدس. هناك هوامش للمؤلف وأخرى للمترجم. هوامش المؤلف مرقمة عددياً (مثل: 1، 2... إلخ)؛ وستنشر في الحلقة الأخيرة. أما هوامش المترجم فتنشر في آخر كل حلقة مع تمييزها برمز نجمة (*) أو أكثر. ونشرت الدراسة في مارس 2011: ودافع البروفيسور شلومو أفنيري، أستاذ العلوم السياسية في الجامعة العبرية في القدس، عن الليبرالية العربية، مؤكداً أن عيوب المثقفين الشرق أوسطيين يمكن العثور عليها في مجتمعات أخرى أيضا. فالتأثير العام للمثقفين يعتمد على طبيعة المجتمع؛ فعندما يكون المجتمع المدني ضعيفاً، يُقابل التمرد على التراث بالإدانة، وفي حالة عدم وجود تعددية اجتماعية وسياسية يصبح من الصعب على المثقف توجيه المجتمع نحو بيئة أكثر انفتاحاً. ولم يُخف أفنيري في الآن ذاته خيبة أمله حول حيرة وتردد الخطاب الليبرالي العربي، بما في ذلك معارضته للتطبيع مع إسرائيل، وكذلك دفاعه عن نظام صدام حسين القمعي أثناء الغزو الأمريكي للعراق عام 2003. ولذلك، علق أفنيري ساخرا: «هناك العديد من الروبسبيريين (*) العرب يختبئون في الظل». (18) ولكن إذا كان الموقف العام لليبراليين في الشرق الأوسط العربي واهنا، وكانوا يعانون من التضارب والتردد الأيديولوجي، فما قيمة مناقشة وضعهم؟ حسنا، هذا سؤال منطقي، ولكنه يعكس القلق ونفاد الصبر، والهوس بالعمل الذي يحقق نتائج صلبة سريعة. لقد كان المفكرون الغربيون هم المثل الأعلى المنشود لمن (يقول الحقيقة للسلطة)؛ أو، بدل ذلك، القوميون والإسلامويون العرب بصفتهم (رجال العمل) المتمرسين في السياسة. الحماس الإيديولوجي حقاً، لقد وجد الخطاب الليبرالي العربي صعوبة في اكتساب زخم (قوة دافعة). وأدى انهيار الشيوعية في أواخر الثمانينيات، والذي اعتبر في الغرب انتصاراً للديمقراطية الغربية، إلى بزوغ موجة من المطالبات بـ «اللبرَلة» السياسية في العالم العربي؛ ولكن لم يحدث، لسوء حظ الليبراليين، أي تغيير حقيقي. وبالإضافة إلى ذلك، أدت حرب الخليج الأولى (1990 -1991) والثانية (2003، والتي أدت إلى احتلال أمريكا للعراق) إلى زيادة المشاعر المعادية للغرب وإلى تعرض النموذج الليبرالي لانتقادات متزايدة. (19) ولكن الفكر الليبرالي أظهر قوة تحمّل تاريخية، إذ بقي عنصرا ثابتا في الخطاب العربي. وقام الليبراليون بتنشيط تفكيرهم الأيديولوجي باستمرار، وأسهموا في الخطاب العام حول القضايا الثقافية والاجتماعية والسياسية، وأثاروا مناقشات ومناظرات ضد خصومهم، وجنّدوا أنصارا جددا وخصوصا من «اليساريين السابقين»، (20) ودعوا إلى نصرة قضيتهم في الغرب. وأدت تقنيات المعلوميات الحديثة دورا واضحا في تسهيل نشر الأفكار الليبرالية. وعبرت وسائل الإعلام الجديدة والاتصالات عبر الأقمار الصناعية والإنترنت على وجه الخصوص، الحدود لنشر الأفكار والرسائل الحساسة. لقد دخلت هذه التقنيات إلى المنطقة في مطلع التسعينيات، ولم تتم السيطرة على الإنترنت بشكل كامل من قبَل الدولة، مثل وسائل الإعلام المطبوعة؛ ما سمح بزيادة وصول الناس إليه. أكثر من ذلك، أصبح التفاعل بين الكاتب والقارئ أكثر فورية وفعالية؛ ما سمح للقارئ بأن يصبح جزءا من الخطاب السيبري (الإنترنتي) من خلال الرد وإضافة تعليقاته الخاصة على الرسالة الأيديولوجية المنشورة. وسرعان ما أصبحت وسائل الإعلام الجديدة معقلا مهما لأيديولوجيات الأقليات في الشرق الأوسط، بما في ذلك التيارات الليبرالية. (21) وربطت الخبرات المشتركة بين أفكار الكتّاب الليبراليين من المناطق المختلفة، بما في ذلك مناطق الحافة، مثل شمال أفريقيا والخليج العربي. وكان من بينها أفكار من السودان: محمود محمد طه؛ ومن مصر: فرج فودة ومحمد سعيد العشماوي وسيد القمني وأمين المهدي وطارق حجي؛ ومن سوريا محمد شحرور وسيد محمود؛ ومن قطر: عبد الحميد الأنصاري؛ ومن الكويت: أحمد البغدادي؛ ومن العراق: عبد الخالق حسين؛ ومن تونس: عبد المجيد الشرفي ومحمد الطالبي؛ ومن المغرب: فاطمة المرنيسي. وقام زملاؤهم المقيمون خارج المنطقة، كحازم صاغية وجورج طرابيشي ووفاء سلطان وشاكر النابلسي، بعرض رسالة الليبرالية العربية على الجمهور الغربي. وخلق هؤلاء الكتّاب ما يمكن وصفه بـ»قرية أيديولوجية« أو »خطاب مجتمعي« نوقشت فيه قضايا رئيسية على أجندة العرب والشرق الأوسط. وكانت مساهمة خطاب المجتمع الليبرالي في ثقافة التعددية السياسية ذات شقين: صادقت على الحق في الاختلاف وشككت في الوضع العربي الراهن. وتمكنت الأصوات الليبرالية من إسماع صوتها من داخل هذه القرية الأيديولوجية. وكان هذا صحيحا حتى في المملكة العرب ية السعودية، التي تطبق قوانين دينية مشددة في النظام القضائي في مجتمع على اتصال قليل مع التحديث؛ ولكنّ المملكة لم تكن محصنة من التأثيرات الأيديولوجية الخارجية، وكان يوجد نوع من الفضاء المدني الكوزموبوليتاني (العالمي المتحرر من التحيزات القومية أو المحلية) حتى هناك. وتجسد الديوانيات، أي الصالونات الفكرية التي تجتمع في المجال الخاص وتوفر ساحة للنقاش العام والنشاط السياسي، أمثلة بارزة على ذلك الفضاء. (22) ويمكن سماع أصوات انفتاح مماثلة من إيران الثورية. ويعتقد كُتاب، مثل محسن كديور وعبد الكريم سروش، أن النقد أمر حاسم لنجاة واستمرارية أي دين توحيدي، ولا يمكن الوصول إلى تلك الحقيقة الإلهية إلا من خلال التفكير النقدي. (23) ولكنْ أصبح عدد من الليبراليين العرب يشعرون بالمرارة والإحباط من تصنيفهم كـ «منشقين فكريا»، ومن عدم تمتعهم بأي جاذبية شعبية في الشارع أو أي سلطة سياسية. وبناء عليه، قام بعضهم بتعديل مبادئهم لتتناسب مع الظروف المتغيرة، وقاموا بتغطية حججهم الليبرالية بعباءة إسلامية لتكون أقل تنفيرا للجمهور العام. وكانت هذه الإستراتيجية أيضاً واضحة في الخطاب الجندري، أو (النسوية الإسلامية)، التي بزغت في التسعينيات، لتواجه الإسلامويين على أرضهم الخاصة بهم عن طريق البحث في النصوص المقدسة وفي تاريخ الإسلام المبكر سعياً إلى تفسيرات تدعم مطالب النساء بالمساواة. وبعكس ذلك، زاد ليبراليون آخرون من انشقاقهم عبر تحليلات عميقة لمجموعة واسعة من القضايا لتأكيد قناعاتهم حول حتمية انتصار الليبرالية. (24) وكانت الليبرالية التكوينية، في فترة ما بين الحربين العالميتين، قد ركزت أساساً على الدستور والوطنية؛ وهما قضيتان مهمتان متصلتان بعمليتين رئيسيتين: التحرّر من الاستعمار، وتشكيل الدولة القطرية الحديثة. وبعد عام 1967، أصبحت الليبرالية تعمل في سياق الدول القطرية المستقلة، وقامت بتوسيع أجندتها وزادت التركيز على الحقوق الفردية والإصلاح الاجتماعي والتسامح مع الآخر. وكان هؤلاء الليبراليون على استعداد لدفع ثمن الدفاع عمّا يظنون أنها قيم مقدسة، وهي تحديداً: الحقوق المدنية، والفصل بين السلطات، وسيادة القانون، والشفافية، والأهم هو فصل الدين عن السياسة؛ وكل ذلك كوسيلة لضمان تحقيق أكبر قدْر من الاندماج في العالم الحديث. وعبر دعوتهم إلى فصل الدين عن السياسة، اختار الليبراليون العرب ما يمكن تسميته «العلمانية الناعمة»، أي أن تقلّل الدولة الخطاب الديني في الحياة العامة مع السماح للدين بأن يستمر في كونه مصدراً للهُوية الثقافية والشخصية؛ بعكس «العلمانية الصلبة» التي تعُدّ الأفكار الدينية غير مشروعة وباطلة. (25) ثلاث إستراتيجيات ليبرالية رئيسية لنزع السياسة من الإسلام وتركّزت الجهود الرامية إلى «نزع السياسة من الإسلام» على جوهر الإسلام، أي القرآن، باستخدام ثلاث إستراتيجيات رئيسية: الإستراتيجية الأولى هي «تاريخية» القرآن، أي عرضه كوثيقة تاريخية تشكلت في سياق «ثقافة عربية ما قبل إسلامية» كانت على اتصال وثيق مع اليهودية والمسيحية وغيرها من المعتقدات الشرقية المبكرة. والإستراتيجية الثانية هي «عقلنة القرآن» عبر محاولة التقليل من أهمية التدخل الإلهي في تكوين النص المقدس وتعزيز العنصر البشري. وتقديم النبي ليس بوصفه متلقياً سلبياً للوحي، بل كمتعاون مع الصحابة والمجتمع بشكل عام لتعزيزه نصياً. (26) هذه الطبيعة التفاعلية للقرآن قادت نصر حامد أبو زيد إلى أن يستنتج بأنه يجب مقاربته كـ«خطاب» ينقل الرحمة الإلهية الشاملة تجاه المسلمين وغير المسلمين على حد سواء، وليس كنص جامد. (27) (يتبع) ... ... ... (*): نسبة إلى ماكسميليان روبسبير (1758 -1794)؛ وهو محام، ويعد أشهر زعيم سياسي فرنسي بزغ من الثورة الفرنسية عام 1789. انتخب روبسبير نائباً لرئيس مجلس الطبقات، الذي يمثل الطبقات الثلاث الرئيسة في فرنسا؛ وهم: (أ) رجال الدين، و(ب) النبلاء، وأخيراً (ج) عامة الشعب. ثم انتخب في الجمعية التأسيسية الوطنية (المكونة من ممثلي الشعب)، إذ سطع نجمه ولفتت خطبه وأحاديثه البارعة الأنظار إليه. قاد روبسبير ما سمي «عهد الإرهاب الثوري»، الذي تلا الثورة الفرنسية والذي قتل خلاله آلاف الفرنسيين في بضعة أسابيع فقط بعد محاكمات هزلية. ولذلك، أعدمه الثوار بالمقصلة عام 1794. (العيسى) ترجمة وتعليق/ د. حمد العيسى - الدار البيضاء hamad.aleisa@gmail.com

مشاركة :