يميل أوباما إلى إيهامنا بأنه يتألم ليل نهار لمعاناة السوريين ومآسيهم، ولهذا يتجه جاهداً نحو المساعي الدبلوماسية لحل الأزمة، وآخرها الهدنة الروسية الأميركية التي دخلت إلى حيز التنفيذ وبدأ تطبيقها فعلياً أول أيام العيد، مدعياً بأن دافعه الحقيقي وراء جميع هذه المساعي هو تحقيق الديمقراطية وتطبيق مبادئ حقوق الإنسان، في حين أن الهدنة الأميركية الروسية ليست الأولى، بل سبقتها سبع عشرة مبادرة خلال الخمسة أعوام الماضية. منها مبادرة "كوفي عنان"، "وخطة الإبراهيمي"، و"مؤتمرات جينيف 1، 2، 3 "، ثم "عملية فيينا"، و"المبادرة الرباعية"، و13 قراراً صادراً عن مجلس الأمن الدولي، ولا تزال الإدارة الأميركية متمسكة بمقولة "الدبلوماسية هي الحل الوحيد لحل الأزمة السورية". طوال الخمسة أعوام وهي عمر الثورة السورية لم ينقطع "أوباما" عن الكذب على الشعب السوري ساعة واحدة! ففي الوقت الذي كان يظهر فيه على شاشات التلفاز ويقطع للسوريين عهود غليظة بانحياز أميركا الكامل إلى جانب المستضعفين والمشردين من السوريين ودعمهم للوقوف في وجه النظام الذي سامهم سوء العذاب والتنكيل، كان في الواقع لا يحرك ساكناً تجاه نصرتهم، لا سياسياً باتخاذ موقف دولي قوي لوقف إطلاق النار وحماية المدنيين! ولا إجراء عسكري فعلي على أرض المعركة! وفي الوقت الذي كان يتوعد فيه النظام برد حاسم وعقوبة دولية رادعة، جراء ما أقدم عليه من تجاوز صارخ للخط الأحمر عندما قصف المدن بالقنابل الكيماوية وغاز الأعصاب المحرم دولياً، وحرق أكثر من 1400 طفل وامرأة وشيخ، تراجع عن موقفه سريعاً بعد أقل من 24 ساعة ولحس خطه الأحمر بلسانه، تاركاً الشعب السوري يتجرع الويلات وحده، وفي الوقت الذي أعلن فيه "أوباما" وقوفه إلى جانب الثوار ودعمهم وتدريبهم وتجهيزهم لمواجهة النظام، تخلى عنهم بين ليلة وضحاها بعد أن قدم لهم دعماً مهلهلاً على استحياء لا يحسم أمراً في ساحة المعركة، ولذا فإن قناع الرحمة والإنسانية الذي يدعيه "أوباما" ويتقمصه أمام شاشات التلفاز، بات مفضوحاً وساذجاً أكثر بكثير مما يجب، فلا هو صادق بما يدعيه قيد أنملة، ولا عاد الشعب السوري يصدق وعوده الواهية الكاذبة. السوريون على اختلاف توجهاتهم السياسية يلعنون "أوباما" ليل نهار بفضل سياسته المعروفة بـ"اللعب على جميع الحبال"، فالنظام والمؤيدون له يستنكرون وقوفه إلى جانب الثوار ودعمهم، والثوار يتهمونه بتقديم دعم هزيل لا يسمن في أرض المعركة ولا يغني من ضعف، وبتخاذل وتهاون في اتخاذ موقف قوي فعلي لحل الأزمة السورية لا تبرير له سوى رغبته في استمرار طاحونة القتال بين الفصائل في معركة دامية لا غالب فيها ولا مغلوب، وإلا لما دخلت الثورة السورية عامها الخامس وما زال الشعب يقبع تحت قصف شديد بلا أي حراك دولي أو دعم عسكري حاسم! ولولا تخاذله لما أصبحت الساحة السورية مرتع مَن لا مرتع له، وبات لا يصدق بأن سوريا كبقعة جغرافية يمكن أن تؤوي كل هذه الفصائل والجيوش المتناحرة! إذن لماذا يسعى "أوباما" المعروف بسياسته المهزوزة والرثة خلال أيامه الثلاثين بعد المائة الأخيرة المتبقية له في الرئاسة، إلى عقد هدنة مع الروس على الأراضي السورية؟ إن سياسة "نسمع ضجيجاً ولا نرى عجيناً" التي اتبعها "أوباما" في الشرق الأوسط ولا سيما سوريا طوال فترة رئاسته، قللت كثيراً بما عرف سابقاً بـ" الهيبة الأميركية"، وكانت سبباً رئيسياً في إعادة الدور الروسي السياسي والعسكري القوي عالمياً وإقليمياً، إذ لم يكن لـ"بوتين" أن يتحدى أميركا ويقدم على اقتحام "القرم" وضمه إلى روسيا، لولا يقينه التام بأنه أمام رئيس مهزوز لا يقوى إلا على الخطابات الجوفاء والوعود الكاذبة! ولولا التخاذل الأميركي المشين في الشرق الأوسط لما أصبحت سوريا محمية روسية خالصة رغم الوجود العسكري الأميركي الضخم في المنطقة الذي ظل قابعاً في ثكناته لا يجرؤ على التدخل فيها، مما دفع بحلفاء أميركا إلى توجيه قبلتهم شطر "الدب الروسي" بعد أن فقدوا الثقة بالقيادة الأميركية ويقينهم بأن ضالتهم لن تحقق أبداً مع رئيس أساء لبلاده قبل أن يسيء إليهم، وهذا ما أيقنه "أوباما" متأخراً جداً! ولذا فهو يسعى جاهداً إلى حفظ ما تبقى من ماء وجهه في أيام رئاسته الأخيرة، ليظهر بصورة الرئيس القوي صاحب القرار الذي يقول ويفعل، والقادر على تسيير السياسة الدولية كيفما يشاء. ولهذا سخَّر جهوداً جبارة لإنجاح الهدنة الأميركية الروسية، رغم يقينه التام بأن هذه الهدنة لن تثمر تغييراً جذرياً مهماً على الساحة السورية التي فلت زمام أمرها من بين يديه، ولن تضيف أمراً ذا أهمية إلى أي من الفصائل المتناحرة التي لم تعد تعير لقرارات الولايات المتحدة أهمية كبيرة، وسوف يعود الأمر على ما كان عليه بلا تغيير ولا تبديل يذكر، هذا إن لم يخرق أحدها الهدنة. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :