من منّا لم يعانِ من مواقف تحيّز وعنصرية، في طفولته أو في شبابه، جعلته يشعر بأنه غير مرغوب أو أنه لا ينتمي إلى المجموعة التي من المفترض أن ينتمي إليها؟ كم من المواقف الإقصائية حدثت في حياتنا، جعلتنا أيضاً إقصائيين تجاه الآخرين، علاقتنا بهم وبالمجتمع وتعريف الانتماء وممارسة التجريم والإقصاء ومشكلة الصور النمطية. ما تقدّم كان محور ورشة عمل أقيمت في مقاطعة تورنغن الألمانية أخيراً، وحاولت جعل المشاركين فيها يفكرون فيه ويواجهونه كما أفادت مديرة الورشة. أسئلة مثل: من أنا وإلى مجموعة أنتمي؟ ما مدى صلابة هويتي واستقرارها؟ كيف أرى هوية الآخر أو أعرفها؟ من أين جاءت الأسس التي أقوّم على أساسها الآخر؟ وإلى أي حدّ تلعب النمطية دوراً صورياً أو ذا قيمة في عملي؟ ومن أين أتت صورة الآخر لديّ؟ هدف الورشة جعل المشاركين واعين، بما يمارس عليهم من إقصاء وما يمارسونه على الآخر وفتح قنوات للماضي، لكي يعرف كل مشارك، من أين أتت سلوكيات الإقصاء والصور النمطية لديه، أين تبدأ حدود الإقصاء وأين تنتهي؟ وأن يتمكّن المشاركون من وضع استراتيجيات واضحة، عندما يواجههم المجتمع بنوع من الإقصاء أو التجريم. يذكر أن المجتمع الألماني عاش طويلاً قبل الحرب العالمية الثانية وأثناءها، تعصّباً واضحاً وتحييداً كبيراً لليهود. واختبرت فئات أخرى، كالمثليين مثلاً أعنف صور التجريم، ما جعل الخوف ملازماً لهم ولا يزال موجوداً ومبرراً، من إمكان صعود التيار الإقصائي مجدداً خصوصاً في ظل ما تعيشه ألمانيا حالياً من صعود شعبية اليمين المتطرّف في شكل لا سابق له منذ تلك الحرب، مما دفع جهات عدة ويدفعها لتنظيم مثل هذه الورش والندوات لزرع الوعي والمعرفة والإضاءة على أسباب التعصّب ومعالجته. وقد أحدثت الورشة التي استمرت أياماً أربعة، عصفاً فكرياً كبيراً للمشاركين، وهم في غالبيتهم، من العاملين في القطاع الاجتماعي، مدرسون، أو مدرّبون خاصون لمعوّقين أو عاملون في قطاع الهجرة. أسئلة محورية مجموعة من الأسئلة تطرحها المدربتان (تفضلان عدم ذكر اسميهما) على المجموعة وتنقسم الإجابة بين نعم ولا. من يجيبون بـ «نعم» على الأسئلة يتوجهون إلى حائط محدد، وكذلك أصحاب الإجابات «السلبية». من الأسئلة المطروحة، هل تشعر بنفسك معاقاً أم لديك إعاقة ما؟ ما هو ترتيبك المنزلي؟ هل لديك أي صداقة أو علاقة مع يهودي، أو مع مع مثليي الجنس؟ هل كنت في إحدى فترات حياتك عاطلاً من العمل؟ وهل أهلك أكاديميون ومتعلمون أم لا؟ هل تتقن أكثر من لغة؟ وكانت تعليقات المجموعة بعد الانتهاء من طرح الأسئلة مختلفة ومتنوعة، فبعض الأسئلة كان مربكاً، وبعض الأوضاع أيضاً. إحدى المشاركات علّقت قائلة: «عندما وقفت بمفردي إلى جانب هذا الحائط بينما باقي أفراد المجموعة يقفون سوياً إلى الجانب الآخر، شعرت بشيء من الخجل وتمنيت ألا أكون بهذا الموقف». وقال آخر: «أعجبني التمرين كثيراً، فقد شعرت بالجماعة من حولي وبالدعم. فحين كان السؤال: هل كنت عاطلاً من العمل في فترة من فترات حياتك؟ ورأيت نفسي مع آخرين، شعرت بالدعم وفقدان الخجل من هذه الفترة». ويذكر أن البطالة من الأمور التي يتعامل معها الألمان بحساسية كونها تقع ضمن فئة الإقصاء الذي يمارسه المجتمع ضد هؤلاء، ويضعهم في صورة سلبية نمطية. كما أن سؤالاً مثل: هل أحد والديك أكاديمي، أحرج إحدى المشاركات، وكشفت أنه كان دائماً سؤالاً ضاغطاً، حيث إن الأهل الأكاديميين مؤشر آخر إلى سوية معينة. بينما علقت أخرى على سؤال (هل لديك صديق يهودي؟)، بالقول: «أشعر بأنه الآن سؤال غير لائق، على رغم أن ليس لدى الموجودين صديق يهودي. والأفضل أن تكون صيغة السؤال: هل لديك مشكلة في إقامة علاقة مع شخص يهودي؟». وذكرت أن السؤال بحد ذاته إقصائي. من جهة أخرى، تبادل أفراد المجموعة خبراتهم حول ذكريات الطفولة، فقد تضمّنت المواضيع التي ناقشتها مجموعة صغيرة، أسئلة من قبيل، هل عانيت من لونك وأنت طفل؟ هل أقصيت بسبب جنسك (ذكر أو أنثى)؟ هل جرّمت بسبب ديانتك؟ هل أبعدت لأنك قادم من مدينة ما أو من الريف؟ وأوضحت القائمتان على ورشة العمل أن الهدف من العودة إلى الطفولة، جعل المشاركين يتحدّثون عما عانوه في هذه المرحلة من إقصاء، وجعلهم بالتالي أكثر وعياً بأن ما يمتلكونه الآن، من صور نمطية عن الآخر، يعود في قسم كبير منه إلى أيام الطفولة الأولى. يذكر أنه بعد كل تدريب، كانت المجموعة تتناقش وتتصارح عما عنت لها الأسئلة. وكشفت سيدة أنها كانت لوقت طويل تتحدث عن الناس القادمين من الريف بشيء من الاستخفاف. وتحدّث مشارك عن المتدينين، إذ كان يُكرر أمامه في أيام طفولته أن الناس المنغلقين هم المتدينون. لكنه لاحظ مع الوقت أنه أيضاً عندما يستخدم هذه الجملة فهو ليس أقل تعصباً. من جهة أخرى، أدّت المجموعة لعبة الكرسيين، وخلالها تم تناول موضوع اللاجئين. يجلس أحدهم على كرسي مردداً ما يقوله بعض الألمان تجاه اللاجئين، مثل أنهم أتوا ليأخذوا أموالنا، ليسوا جميعهم فارين من حرب. وفي الجهة المقابلة يجلس أحدهم ليقول وجهة نظر مختلفة. إنه موقف الدفاع في مقابل موقف الهجوم، الذي يجعل المشاركين يكتشفون قيمهم تجاه إقصاء فئة اللاجئين التي تعد الموضوع الأهم الآن في ألمانيا. لعبة جعلت المشاركين يعاينون كيف يجلس الشخص الهجومي ويتحدّث، وكيف يتصرّف الذي يدافع عن نفسه. ووفق تقويم المجموعة، قلما تمكن «المهاجم» من الاستماع إلى الآخر لا سيما أنه يتحدّث بنبرة وصوت عاليين. وغالباً ما يعتمد «المدافع» الخطاب العقلي والاستشهاد بالحقائق، ويبدو أقل توتراً وأخفض صوتاً. المفهوم والاختيار ماذا يعني لك اسمك، الاسم جزء من الهوية والشخصية، ويقدّم أيضاً صوراً نمطية عن حامله، إما هو شديد التديّن، أو شخص لطيف أو فتاة شديدة الدلال، أو شخص صارم وقوي. ويذكر أنه خلال الحكم النازي، انتشر بكثرة اسم أدولف، وبعد انتهاء الحرب ولوقت طويل كاد هذا الاسم ينقرض، وله بالطبع مدلول تاريخي أيضاً. لكن من منا يختار اسمه؟ ومن منا يحبه؟ من منا يتصالح معه على رغم أنه لا يعجبه. فاسمك جزء من هويتك، جزء من تصالحاتك الكبرى، فالناس لا تعرفك إلا من خلاله. ولكن قد يكون سبباً في ممارسة الآخر عليك إقصاء ما أو ممارستك عليه نوعاً من ذلك. بعد أن تطرّق كل من المشاركين عن علاقته باسمه، تمحورت الفقرة الأخيرة من ورشة العمل حول مفهوم السلطة وعلاقتها بالإقصاء. فمن يمتلك السلطة يستطيع أن يمارس الإقصاء، ويمكن أن تكون قوانين البلاد ذاتها إقصائية. وقد يمارس الموظفون سلطة على المواطنين، وإقصاء عندما يختارون تطبيق القانون على مجموعة بعينها، لكن الناس أيضاً في وظائفهم البسيطة ومهنهم العادية، يمارسون السلطة. بدأ نقاش السلطة، بجلوس أحد المشاركين على كرسي في الوسط، وإلى جانبيه كرسيان فارغان، ونطق كلمة سلطة. وتعيّن على المشاركين أن يتبادلوا الأماكن وأن يجلسوا، وأن يختار كل منهم الكلمة التي يرى أنها تتعلّق بالسلطة، المال، الحرب، أميركا، (فلاديمير) بوتين. يتعاقب الجالسون على الكراسي وتتغير الكلمات التي ترتبط ببعضها وبالسلطة، وتسجل المدربتان عدد الكلمات التي ينطقها المشاركون. للسلطة فروع وامتدادات قد لا يدركها المرء في حياته اليومية، قد لا ينتبه لها، وهل السلطة كلمة سلبية بالمطلق. أو أيجابية أحياناً؟ نقاش آخر وحاد بين من يعتبرها كلمة بمطلقها سلبية وآخر يعتبرها قد تكون إيجابية.
مشاركة :