أنت تقرأ.. إذن أنت مُهم

  • 10/3/2016
  • 00:00
  • 15
  • 0
  • 0
news-picture

د. عارف الشيخ يقول الإمام الزمخشري رحمه الله: المرء عنوان أمره: عنوان عمره. وأنا أقول: أنت تقرأ إذن أنت مُهم. لو تأملنا في كلام الزمخشري لوجدنا أنه يلخص لنا ما نريد أن نقوله عن القراءة وأهميتها في حياة الإنسان. وقديماً قيل: اختيار الرجل نصف عقله، ياترى كيف نفسر هذه البرقيات السريعة أو التغريدات السريعة بلغة العصر التي أرسلها أولئك العظماء؟ عظماء الكلمة البطلة، عظماء الحكمة والبيان، عظماء الفطنة والسريرة؟ لا شك في أن هؤلاء النوادر لم يبلغوا هذا المبلغ من علو الشأن، إلا لأنهم أدركوا قيمة الوقت أولاً فاستثمروه لمصلحتهم في نفع البشرية، والحديث يقول: خير الناس أنفعهم للناس. نعم.. ولم يعرفوا قيمة الوقت إلا من خلال القراءة، وهل هناك قول أدل على أهمية القراءة والكتابة من قوله تعالى: اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم.. الآيات من سورة اقرأ. ويذكر ياقوت الحموي في معجم الأدباء أن الإمام اللغوي المعروف بثعلب شيخ النحاة كان إذا دعاه رجل إلى دعوة طعام، شرط عليه أن يوسع له في المجلس مقدار مُتكأ، يضع فيه كتاباً فيقرأ. ويروى عن ابن جرير الطبري مفسر القرآن المعروف، أنه مكث أربعين سنة يكتب في كل يوم منها أربعين ورقة. وفي معجم الأدباء أيضاً عن الفقيه أبي الحسن الولوالجي قال دخلت على أبي الريحان البيروني العالم الفلكي المعروف وهو يجود بنفسه، قد حشرج نفسه، وضاق به صدره، وقد بلغ من العمر 78 سنة، قال لي وهو في تلك الحال: كيف قلت لي يوماً؟: حساب الجدات الفاسدة وهي التي تكون من قِبل الأم. يقول الفقيه: قلت له إشفاقاً عليه أفي هذه الحالة؟ قال لي يا هذا أودع الدنيا وأنا عالم بهذه المسألة، ألا يكون خيراً من أن أخليها وأنا جاهل بها؟ فأعدت ذلك عليه وحفظ مني وعلّمني ما وعد، فخرجت من عنده وأنا في الطريق فسمعت الصراخ، أي أن البيروني توفي. هكذا نقرأ في سير السلف من هذه الأمة، أن القراءة والكتابة كانتا ديدنهم في حال الصحة وحال المرض، وأنهم ربطوا القراءة والكتابة بالوقت، والوقت أقسم الله تعالى به في كتابه فقال: والعصر، والضحى، والليل، والنهار، والفجر، وما أقسم الله بالوقت إلا لأنه مهم. ومن أجل ذلك فإنهم استثمروه في عمل مهم ألا وهو القراءة والكتابة وطلب العلم الذي هو فريضة على كل مسلم ومسلمة. وفي عصرنا الحاضر رأينا غير المسلمين يعظمون الوقت، ويصرفونه في القراءة لا في شبابهم فقط، بل عندما يتقاعدون عن العمل، فيفتخرون بأنهم قرأوا الكتاب الفلاني أو ألفوا الكتاب الفلاني، أو تعرفوا إلى فلان من خلال القراءة. فمن ذلك أن ابن الفيلسوف الأمريكي سأل أباه وليم جيمس قائلاً ماذا أقول للناس عندما يسألونني عن عملك يا أبتاه؟ (كان قد تقاعد). قال له أبوه: يا بني إنني دائم السفر والتجوال لألقى الفلاسفة والأدباء والمفكرين من كل عصر وجنس ودين، غير عابئ بحدود جغرافية ولا بفترات زمنية، وإنني أصغي بواسطة الكتب للأموات القدامى، كما أصغي للأحياء الذين تفصلني عنهم مسافات شاسعة. وإنني أتساءل اليوم في اندهاش فأقول: كم يكون الفرق بين هذا الإنسان الغربي وبين الإنسان الشرقي، وأقصد في منطقتنا، حيث إنه لا يمسك الكتاب طالما هو على رأس عمله، وإذا تقاعد اختار له مقهى في البلاد، أو بهو فندق في خارج البلاد، واسترخى، بل وجلس فيه طول نهاره مفتخراً مضيعاً للوقت، وفي الليل نام نومة أهل الكهف. أقول لمثل هذا إن دعوة صاحب السمو رئيس الدولة، وصاحب السمو نائب رئيس الدولة إلى القراءة وجعل عام 2016 عام القراءة، لم تكن عبثية، بل علينا أن نأخذها على محمل الجد، فقد كفى ما ضيعناه من العمر. وإننا، العرب والمسلمين، عار علينا أن نهمل القراءة والكتابة وقد وُصفنا بأمة اقرأ، في حين أن الفراعنة في ذلك الزمن السحيق كانوا قد أنشأوا مكتبة، وكتبوا على بابها: هنا غذاء النفوس وطب العقول. نعم.. إن الدولة التي تقرأ تقود العالم اليوم، وإن كلمة (اقرأ) أيها العرب والمسلمون فيها دلالات عظيمة. لكنكم كما قال أحد قادة إسرائيل: مشكلة العرب أنهم لا يقرأون، وإذا قرأوا لم يفهموا. ومن حقه أن يقول هذا عنا، لأننا بالفعل أمة غير جادة، نقدم القول على الفعل، ونكثر الهزل لا الجد، وإذا شرعنا في شيء انقطع نفَسنا ولم نكمل المشوار، وإذا تولى أحدنا مسؤولية أحرق آثار من قبله، لذلك ترانا نبدأ دائماً من الصفر، وكأننا من غير تاريخ، ومن غير حضارة، ومن غير استراتيجية، مع العلم بأننا في بطون كتب التراث أمة عظيمة، أمة صنعت التاريخ، وقد تعلم الغرب من علومنا وابتكاراتنا بشهادة الغرب أنفسهم. أجل.. فإذا كانت قيادتنا الرشيدة توجهنا إلى المكتبات والكتب لنقرأ، فإنها تريد منا أن نقرأ قراءة جادة تبنى على أبعادها الخمسة المعروفة للقراءة الحديثة وهي: التعرف إلى أشكال الحروف - ونطقها نطقاً سليماً - وفهم المقروء فهماً واعياً - وانتقاد المقروء لا قراءة حاطب ليل - وتوظيف القراءة في الحياة اليومية - وتمحيص المقروء وانتقاؤه. إذا عوّدنا أنفسنا على مثل هذه القراءة فإننا سوف نجني فوائدها ومن فوائدها: أن نفهم الدين فهماً صحيحاً وسطاً بعيداً عن التطرف، ونعطي لغتنا الأم ما تستحق من عناية، فنتعلم اللغات لنقوي لغتنا لا لنقضي على لغتنا الأم، وننشئ جيلاً شبابياً متوقد الذهن واعياً منفتحاً على العالم من غير تفريط في موروثاته، ونستثمر الوقت والثروة في سبيل الاستزادة من العلم والمعرفة والإنتاج، ونستفيد من تجارب العالم من خلال الالتقاء بهم بدلاً من أن نقطع الوقت لهواً، لنزداد إيماناً بالله وثقة بالنفس لا لنرتد ونلحد، فنُحرم بذلك من العون الإلهي، وبالقراءة نعوّد أنفسنا على البحث والقيام بالمطالعة بأنفسنا لا بالاتكال على غيرنا، ونقرأ لنتعلم محاورة الآخرين فالحياة اليوم غالب ومغلوب، ولن نتغلب إذا لم نستطع أن نقنع الآخرين بالحجة والبرهان العلمي، ولا ننتظر المدرسة تعلمنا، فالمدرسة مفتاح إلى العالم، والطالب لن يكون عالماً إذا لم يجتهد خارج الصف، ولم يكن قارئاً نهماً يقرأ كل شيء، فالعلم شيء، والإدراك شيء آخر، انظر إلى الأديب المنفلوطي، وانظر إلى الفيلسوف الكبير عباس محمود العقاد، كيف نبغ وصار مفكراً لا يجارى، مع العلم أنه لم يكن يحمل إلا شهادة الصف السادس الابتدائي. ومن طرائف ما يذكر أن الدكتور طه حسين (الخصم اللدود للعقاد) قال للعقاد يوماً من باب التهكم: يا أستاذنا أنت بهذا العلم الغزير لماذا لا تتقدم للحصول على الدكتوراه؟ فقال له العقاد في ابتسامة: ومن يمتحنني؟ فسكت طه حسين ولم ينطق بنصف كلمة. أجل.. نعظّم قيمة الوقت أولاً، ونعظم أهمية القراءة والكتابة ثانياً، ونعظم دخول المكتبات العامة ثالثاً، لنطلع على تراث الآباء والأجداد، كما نعظم الاستفادة من المكتبات الإلكترونية رابعاً، لكنني أهمس في أذن كل واحد منكم فأقول: - لن تكون قارئاً بمعنى القراءة إذا كنت تقرأ في النت فقط ولم تفتح أي كتاب من كتب التراث المصففة على أرفف المكتبات العامة. - لن تكون قارئاً إذا لم تعرف أن تمسك القلم لتكتب الحروف بشكل سليم، وتنطقها بشكل سليم. - لن تكون قارئاً أو كاتباً مهماً، إذا لم تقرأ عشرات الكتب، بل المئات لأصحاب الأقلام المخلصة والأمينة من قبلك. لن تكون قارئاً عالماً إن لم تتذوق الأدب، ولن تكون أديباً إذا لم تتذوق الشعر، ولن تكون شاعراً إذا بدأت بالشعر الحديث المسمى بالشعر المنثور، ذلك أن الشعر يبقى شعراً ولا يتحول إلى نثر. وما أجمل ما قاله الشاعر الكبير نزار قباني عن الحداثة، إذا كانت طائفة الحداثيين تريد أن تبيع مكتبة جدي، وعباءة أبي، وغطاء صلاة أمي، ومسبحتها، وثوب زفافها في المزاد العلني فلا، وإن كانت تريد أن تقطع شجرة عائلتي، وتلغي ذاكرتي أو تسرق جواز سفري فلا. وإن كانت تريد أن تحرق كل الكراسات المدرسية التي كتبت عليها في طفولتي قواعد الصرف والنحو ومحفوظاتي من الشعر الجاهلي والأموي والعباسي فلا. وأما إذا كانت الحداثة زهرة جديدة في بستان التراث فأهلاً بها، وإن كانت تريد أن تزرع وردة غريبة اللون والرائحة في بستان الشعر فأهلاً بها، وإن كانت تريد أن تعلق لوحة جديدة على حائط منزلي فيا مرحباً. نعم.. أقول مثل هذا لكل من يقرأ ويترجم في زماننا، فالقراءة أمانة، والترجمة أمانة، والأجيال القادمة أمانة في أيدينا.

مشاركة :