«موت فرجيل» لهرمان بروخ: الكاتب يتساءل عن جدوى كل شيء

  • 10/4/2016
  • 00:00
  • 30
  • 0
  • 0
news-picture

منذ صدورها للمرة الأولى، مترجمة إلى الإنكليزية، عام 1938– قبل أن تصدر في لغتها الأصلية الألمانية – لم يتوقف النقاد ودارسو الأدب عن دراسة وتحليل رواية «موت فرجيل» لهرمان بروخ. فبالنسبة إليهم هي عمل أدبي مليء بالرموز والدلالات التي تتجاوز الحكاية نفسها وتتجاوز الزمن السحيق الذي تدور أحداثها فيه. فالرواية، ومنذ عنوانها، تشير مباشرة الى موضوعها وزمنها وشخصيتها الرئيسية. ومن هنا لن يكون من المنطقي التعامل معها بكل هذه البساطة وكأنها نصّ تاريخي. ومع هذا، سيبقى من الصعب الموافقة على ما يذهب اليه بعض أولئك النقاد، من أن «موت فرجيل» تريد لنفسها أن تكون عملاً أدبياً يتصدى للنازية. قد يكون لها هذا الهدف في جوهرها بمعنى أن كل عمل إبداعي كبير وصادق هو بالضرورة صرخة ضد الفاشية والنازية، أما في بعدها الدلالي المباشر، فإنها في حقيقتها عمل يتناول لعبة الإبداع نفسها و «جدوى» هذا الإبداع في عالم يسير على هواه ضارباً عرض الحائط بكل الأفكار والمفكرين. وبهذا المعنى يمكن القول أن هذه الرواية الضخمة والتي لا تزال حتى اليوم تعتبر عسيرة على القراءة، هي صرخة ضد اللاجدوى وضد الواقع الذي يوصل الفكر الى العدم في كل مرة يتطلع فيها هذا الفكر الى أن يكون له دور في تقدم البشرية وصنع إنسانية الإنسان. > وهذه الحقيقة هي تلك التي يتوصل اليها فرجيل، الشاعر الروماني الكبير، خلال الأيام الأخيرة من حياته. فهو كان في ذلك الحين يسافر في حاشية الإمبراطور أوغوسطينوس عائدين من رحلة الى اليونان. وإذ يصلون الى ميناء برانديزي الإيطالي، يكتشف فرجيل، شاعر الأمة الكبير ونديم الإمبراطور، أنه مصاب بملاريا قاتلة ويبدأ بالاحتضار. وهكذا إذ يدرك أنه لم يتبقّ لديه سوى أيام قليلة يعيشها، تستبد به حالة من الكآبة واليأس تدفعه الى الرغبة في إحراق ملحمته الكبرى «الإنيادة». صحيح أن تدخّل الإمبراطور سوف يمنعه في اللحظات الأخيرة من فعل ذلك. لكنه لم يمنعه من تمضية آخر لحظات حياته من تأمل تلك الحياة ولا جدوى كل ما عاشه وفعله، بخاصة في تفكيره المضني بأن كل ما كتب من أجله قد ذهب تذروه الرياح وأن كل ما عاشه كان عبثاً في عبث. لقد راح يسائل نفسه عن جدوى التاريخ ومعناه. عن جدوى الكتابة ومعناها. عن جدوى كل شيء وكل فعل. وهو حتى إذ يعمل فكره في انتصارات سيده الإمبراطور وسياساته، يهزأ في داخله من هذا كله. تدور الرواية إذاً بصفحاتها الخمسمئة، داخل عقل فرجيل المحتضر، ما يجعلها تنتمي بقوة الى تيار الوعي الى حد جعل كثراً من النقاد يقولون أن تأثر بروخ فيها بجيمس جويس يبدو جلياً. وهذا ما يفسّر كذلك صعوبة «موت فرجيل» في الوصول الى قطاع واسع من القراء. أما بالنسبة الى النقاد والباحثين، فهم رحبوا بها منذ ظهورها وكان من بينهم من وضعها، من ناحية لغتها الشاعرية وصورتها الرمزية، في مصاف «موبي دك» لهرمان ملفيل و «إغواء القديس أنطوان» لغوستاف فلوبير. ومع ذلك، فإن باحثين أقل تعلقاً بالترميز الأدبي والمسألة الشاعرية، قالوا أن بروخ إنما «يقيس» نفسه فيها بكبار كتاب العصور القديمة، ناهيك بأنه في تفكيره من خلال عقل فرجيل نفسه، إنما يضع نفسه في سياق واحد مع صاحب «الإنيادة» وبالتالي في سياق واحد مع أفلاطون منظوراً إليه هذه المرة، ليس كفيلسوف فقط وإنما كشاعر وفيلسوف في آن معاً. ولعل هذا ما أعطى الرواية قيمة فكرية كبرى، لكنه في الوقت نفسه أبعدها عن عامة القراء. > عندما يقول الكاتب الألماني الكبير توماس مان، عن رواية لكاتب «الماني» آخر أن رواية «موت فرجيل» «من الأعمال الأكثر أساسية، وحداثة في زمننا هذا، رواية كتبت في شكل جريء، جديد، مفاجئ. إنها رواية تسحر، وتضع كل من يقرأها تحت خيمة سحرها في شكل لا رادّ عنه»، عندما يقول صاحب «الجبل السحري» و «فاوست» مثل هذا الكلام، من المؤكد أن رغبة ستستبد بنا في قراءة هذا العمل، لمحاولة إدراك السبب الذي يجعل كاتباً من طينة توماس مان يعلن دون لبس أو غموض أن كتاباً كهذا قد سحره. > مؤلف «موت فرجيل» هو هرمان بروخ، الكاتب النمسوي، الذي تدين له اللغة الألمانية بأفضل استخدام في مجال الرواية. والحال أن هرمان بروخ كان من قوة اللغة في كتابته الى درجة جعلت أعماله تستعصي على الترجمة حيث انها تفقد خلال ترجمتها جزءاً من جمالها، وفق ما قال النقاد عنه. ومع هذا فان أدب بروخ لم يكن أدب لغة وحسب، بل كان أدب موضوع أيضاً، وواحداً من الآداب الروائية - بخاصة - الأكثر دلالة في القرن العشرين، حتى وإن كان قد ترجم أقل من أي كاتب ألماني أو نمسوي آخر من أبناء جيله، وفاته قطار الشهرة، أو على الأقل وصله متأخراً. > مثل كثر من الكتّاب والفنانين النمسويين، ولد بروخ في فيينا في 1886، ومات في نيويورك في الثلاثين من ايار (مايو) 1951، هو الذي سلك طريق المنفى على غرار غيره من كبار المبدعين، في اللغة الألمانية، حين سيطر النازيون على الحكم في ألمانيا ثم احتلوا النمسا. ولد هرمان ابناً لعائلة صناعية كبيرة ما أهّله للالتحاق بالدراسة الجامعية حيث انكبّ على دراسة الفلسفة والرياضيات وعلم النفس، وأضحى جزءاً من الإنتلجانسيا الطليعية في فيينا، ثم سرعان ما نجده وقد انصرف كلياً الى الأدب وبدأ ينشر القصص القصيرة والروايات بادئاً بروايته الثلاثية التي ستنال شهرة واسعة فيما بعد «السائرون نياماً» التي نشرها في 1931 و1932، والتي شبّهها الكثيرون برواية روبرت موتسيل «الإنسان البلاملامح». كان هدف بروخ من روايته ان يصوّر «انهيار القيم» من خلال رسمه حياة أجيال تبدأ في 1888، عبر شخصية شاب من بروسيا يكتشف العالم الحديث، ساعياً للهرب من واقعه، وتتواصل حتى العقود الأولى من القرن العشرين، وسط عالم الانحطاط والخيبة والانهيار. > غير أن «السائرون نياماً» لن تعتبر أكبر أعمال بروخ، فهذه المكانة تظل حتى اليوم محفوظة لـ «موت فرجيل» التي بدأ كتابتها باكراً في النمسا ثم استأنفها في المنفى، ولم تنشر كاملة إلا في 1945. وهي منذ نشرت للمرة الأولى نالت تقريظ النقاد حتى وإن كانوا قد تلمسوا فيها أقصى درجات الصعوبة، موضوعاً ولغة. والرواية هي في نهاية الأمر مناجاة طويلة وداخلية تروي للقارئ الساعات الأخيرة من حياة الشاعر اللاتيني فرجيل. أما الموضوع الأساسي للرواية وللمناجاة فهو متمحور من حول السؤال التالي: هل على فرجيل أم ليس عليه أن يدمر مخطوطة كتابه الأساسي «الإنيادة» قبل أن يرحل عن هذا العالم؟ > اللافت في هذه الرواية، على أي حال، هو تقسيمها الرباعي، حيث انطلاقاً من أسئلة فرجيل وحيرته، يقسم بروخ الرواية الى أربعة أقسام تتلاءم مع العناصر الأصلية الأربعة الماء والنار والتراب والهواء (الأثير)، وخلاصة ذلك كله تأمل مدهش حول الزمن والموت والخلاص، لا يقطعه أي فعل درامي أو أي حركة مفاجئة أو أي تطور بسيكولوجي وفق ما يرى الناقد جان - جاك بوليه. ومنذ صدورها، لفتت «موت فرجيل» الأنظار، وحيّاها كبار الكتّاب والنقاد من توماس مان الى الدروس هكسلي اللذين وجدا فيها حداثة مفرطة، وسرداً للشرط الإنساني قوامه اللغة وعلاقة اللغة بالزمن. ومن بين أعمال هرمان بروخ الكبيرة يبقى عملان، هما روايتاه الأخيرتان «اللامسؤولون» (1950) و «المغري» (1953). وهاتان الروايتان تبدوان اقل قيمة لمجرد أنهما أكثر مباشرة من الروايتين الأوليين. > الى جانب الروايات كتب هرمان بروخ العديد من الدراسات، غير أن دراساته ومقالاته على تنوعها لم تلق من الشهرة ما كانت لاقته رواياته، بل إن معظم مقالاته لم ينشر إلا في وقت لاحق، حين جمعت دراسات نقدية أدبية له تحت عنوان عام هو «الإبداع والمعرفة» (1955). وفي دراسات هذا الكتاب، كما في نصوصه الروائية، يبدو لنا هرمان بروخ متسائلاً كدأبه دائماً عن مشروعية الكتابة، وعن علاقة الكتابة بالمعرفة وبالزمن. ومن الواضح أن هذا الكاتب النمسوي الذي ولد وعاش أجمل سنوات حياته في فيينا «الكابوس السعيد»، ظل مأخوذاً حتى النهاية بما كان يعتبره مشكلة المشاكل: مشكلة الكتابة، انطلاقاً من سؤاله الدائم: لماذا نكتب؟ وهل للكتابة من جدوى؟

مشاركة :