تُروج وسائل الإعلام المصرية للاتفاق مع "صندوق النقد الدولي" بصفته "بُشرة الخير" والأمل للاقتصاد المصري المتداعي، وتحاول جاهدة تصدير هذا الاتفاق على أنه روشتة العلاج لأمراض الاقتصاد المزمنة. بعيداً عن الدعاية التي تُروج لها الحكومة المصرية -لأسباب سياسية في المقام الأول- دعونا نلقي نظرة سريعة على حيثيات اتفاق الحكومة المصرية مع صندوق النقد الدولي ومدى جدواه الاقتصادي وتأثيره على الشعب المصري. مشكلات الاقتصاد المصري يعاني الاقتصاد المصري من مشكلات بنوية قديمة ومزمنة تراكمت آثارها السلبية وتتطلب لعلاجها أكثر من مجرد اتفاق أو قرض من هذه الجهة أو تلك. فالاقتصاد المصري يعاني من عجز كبير في الموازنة بلغ 11.5% من إجمالي الناتج المحلي في السنة المالية 2015 (طبقاً لتقرير المرصد الاقتصادي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في ربيع 2016)، كما بلغت نسبة البطالة 12.7% مع نهاية العام المالي 2015 (طبقاً لتقرير الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء المصري الصادر في أغسطس/آب 2015). الوضع الاقتصادي المتردي أدى إلى ارتفاع في معدلات التضخم التي وصلت في مايو/أيار 2016 إلى نحو 12.3% -بحسب تقارير البنك المركزي المصري- وهو ما دفع بالبنك إلى رفع أسعار الفائدة الرئيسية في يونيو/حزيران 2016 بمقدار نقطة مئوية من 10.75% إلى 11.75%، وهو أعلى مستوى لها منذ أكثر من عشر سنوات، كما أن العائدات الدولارية تراجعت بشكل كبير نتيجة الانهيار الذي تعانيه السياحة المصرية منذ عام 2011، وانتهت بكارثة إسقاط الطائرة الروسية فوق شبه جزيرة سيناء في 31 أكتوبر/تشرين الأول 2015، كما تراجعت تحويلات المصريين بالخارج، وكذا إيرادات قناة السويس رغم التفريعات الجديدة التي تم حفرها بمليارات الدولارات دون جدوى ملموس إلى الآن. مع تراجع إيرادات مصر من النقد الأجنبي، عانى الاقتصاد المصري من عجز كبير في توفير النقد الأجنبي لتغطية فاتورة الاستيراد الباهظة الثمن، وأدى ذلك إلى استنزاف الاحتياطي الأجنبي لدى البنك المركزي -رغم الدعم المالي الكبير من السعودية والإمارات والكويت الذي يُقدر بأكثر من 33 مليار دولار على هيئة منح وودائع بالبنك المركزي وشحنات نفطية- وارتفاع سعر الدولار بالسوق الموازية. هذه المشكلات سالفة الذكر وغيرها دفعت الحكومة إلى الاقتراض الداخلي بشكل مرتفع، وإصدار أذون خزانة لتغطية عجز الموازنة؛ مما أدى إلى ارتفاع نسبة الدين العام إلى أكثر من 90% من إجمالي الناتج المحلي، كما ارتفع الدين الخارجي إلى نحو 48 مليار دولار مع نهاية عام 2015. شروط صندوق النقد الدولي لا تفتأ الحكومات المصرية المتعاقبة على الادعاء بأن صندوق النقد الدولي لا يشترط أي اشتراطات لمنح التسهيلات المالية المطلوبة، وهي ادعاءات لا تنطلي على ذهن أي متابع للصندوق والحيثيات التي يُقدم بناء عليها القروض والتسهيلات المالية. فالصندوق لديه اشتراطات - وهي ليست جديدة - لتوقيع الاتفاق مع الحكومة المصرية ويمكن الإشارة إلى أهمها كالتالي: - تخفيض قيمة العملة المصرية بالسماح بتعويم الجنيه المصري أمام الدولار الأميركي؛ حيث يرى الصندوق أن الناتج الإجمالي المصري مُقدر بقيمة أكبر من قيمته الحقيقية نتيجة دعم البنك المركزي للجنيه أمام الدولار، وعدم السماح بتعويم الجنيه. - العمل على خفض عجز الموازنة تدريجياً حتى يصل إلى المعدلات الآمنة عبر خفض إنفاق الحكومة على الدعم المقدم للمواطنين، مستهدفة إلغاء دعم الطاقة خلال أربع سنوات، وهو ما بدأت فيه الحكومة المصرية بالفعل عبر خفض نسب الدعم المُقدم إلى الطاقة عن طريق رفع أسعار الوقود والكهرباء. - تعزيز الإيرادات الحكومية عبر تطبيق ضريبة القيمة المضافة وهو ما شرعت به الحكومة المصرية مؤخراً. - مزيد من خصخصة الشركات العامة وطرحها للقطاع الخاص سعياً نحو تعزيز رأسمالية الاقتصاد. - العمل على زيادة الاحتياطي الأجنبي من النقد عبر منح وودائع طويلة الأجل بالبنك المركزي المصري؛ حتى يصبح البنك قادراً على تغطية حاجة المستثمرين من النقد الأجنبي لتأمين احتياجاتهم من الواردات. جدوى الاتفاق مع صندوق النقد الدولي بالنظر إلى اشتراطات الصندوق والإجراءات التي تم البدء فيها يمكن ملاحظة التالي: - خفض قيمة الجنيه المصري سيؤدي إلى ارتفاع تكلفة الواردات، مما سيزيد الأعباء على احتياطات البنك المركزي من النقد الأجنبي. - الارتفاع المتوقع في تكلفة الواردات سيؤدي إلى ارتفاع تكاليف الإنتاج؛ مما سيهدد تنافسية المنتجات المصرية على مستوى التكلفة، وبالتالي لن يؤدي إلى تعزيز قيمة الصادرات المصرية أو تعزيز مركزها التنافسي مقارنة بالمنتجات القادمة من الصين والهند وغيرها. - تطبيق ضريبة القيمة المضافة وخفض الدعم الموجه للسلع والخدمات الحيوية؛ سيؤدي إلى ارتفاع معدلات التضخم وزيادة الأعباء على كاهل المواطن. - الارتفاع المتوقع في أسعار الطاقة -وما سيتبعه من ارتفاع أسعار باقي الخدمات مثل الإيجار والنقل وغيرها- سيزيد من تكاليف التشغيل؛ مما سيحد من قدرة الاقتصاد على النمو وخلق فرص عمل جديدة، ناهيك عن الاحتفاظ بالعمالة الحالية، وبالتالي لن تنخفض معدلات البطالة كما هو مُستهدف. - الخصخصة المتوقعة للشركات العامة والحكومية ستؤدي إلى تسريح بعض العمالة الزائدة عن الحاجة، وهو ما حدث سابقاً، وهو ما سيزيد من نسبة البطالة التي تستهدف الحكومة وصندوق النقد خفضها بحسب خطتهم المعلنة. ماذا عن المواطن؟ المتابع للإجراءات التى تتخذها الحكومة المصرية سيلاحظ عدم اكتراث الحكومة بالأعباء الاقتصادية والمعيشية التي سيكون على المواطن تحملها؛ فوزير المالية المصري يتحدث أن فرض ضريبة القيمة المضافة يستهدف خفض معدلات التضخم وهو ما يتعارض مع المنطق بل وينقضه ارتفاع أسعار بعض السلع مؤخراً بمجرد دخول القرار حيز التنفيذ. كما يمكن ملاحظة حالة التشاؤم والقلق لدى المواطنين من الاتفاق المزعوم؛ نظراً لسابق التجارب السيئة مع الصندوق والأعباء التي يتحملها المواطن في كل مرة يتم فيها الاتفاق مع الصندوق أو حتى يجري الحديث عن اتفاق. فالمواطن سيكون عليه خفض نفقاته الأساسية؛ حيث إنه لن يكون بمقدوره في الغالب زيادة دخله مع عدم وجود أي زيادة متوقعة في الرواتب والأجور، سواء في القطاع الحكومي نتيجة لسياسة خفض الإنفاق المتوقع تطبيقها، أو في القطاع الخاص نتيجة ارتفاع تكاليف التشغيل. فرص النجاح بالنظر إلى التجارب السابقة للصندوق في العديد من الدول -ومن ضمنها مصر- فإنه لا يمكن توقع فرصة كبيرة للنجاح لعدة أسباب، من أهمها المعضلة السياسية التي تمر بها مصر، ولا يوجد لدى النظام السياسي رؤية لحلها، وعدم وجود خطط واقعية لدى الحكومة المصرية لجذب الاستثمارات الأجنبية - وهو ما ظهرت مؤشراته بإعلان شركة "سنتر بوينت" إغلاق فروعها في مصر. ختاماً يمكن القول إن اتفاق الحكومة المصرية مع صندوق النقد الدولي لا يعدو مجرد خطوة نحو الهروب إلى الأمام، وجرعة مسكنات لن تكون قادرة على إسعاف الاقتصاد المصري الذي أنهكه المرض. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :