يتوقع الإنسان العاقل أن ثورة الاتصالات والمعلوماتية والتكنولوجيا الحديثة في كل المجالات العلمية والأدبية والفنية ستسهم في نشر ثقافة الديمقراطية والانفتاح الحضاري، وتمهد الطريق لدخول الدول العربية عصر الحداثة. لكن سوء استغلال وسائل الاتصال المختلفة والإعلام المرئي والمسموع تحديدًا فتح المجال لبروز محطات وفضائيات متعددة تبث برامج دينية تثير النزعة الطائفية ومعاداة الآخر. جماعات الإسلام السياسي من حركات وأحزاب سنية وشيعية، فتحت المجال لبعض رجال الدين وأئمة المساجد بالهجوم على كل من يحمل رأيًا مخالفًا للمذهب أو العقيدة، وكل من له رأي حر وفكر مستقل يخالف هذه الجماعات، وقد نال التيار المدني والليبرالي والعلماني النصيب الأكبر من هجوم هذه الجماعات، حيث تم اتهامهم بشتى الأوصاف وانعدام الأخلاق، حتى وصل الأمر بأحد المشايخ إلى اتهام الليبراليين والعلمانيين بممارسة الفواحش حتى بين الأقارب، وبالتالي الدعوة لمطاردتهم وتشريدهم والانتقام منهم، من دون أي دليل. السؤال: لماذا كل هذه الحملة على التيار الليبرالي والعلماني الآن في الوقت الذي بدأت فيه الحملة الدولية للقضاء على الجماعات الإرهابية، وعلى رأسهم «داعش»، وكل من يدعم هذه الجماعات ويروج لأفكارهم، ويمول حملاتهم الإرهابية في الوطن العربي. الأمر الذي لا تعيه جماعات الإسلام السياسي، هو أن العلمانية ليست دينًا، وليس لها علاقة بالدين من قريب أو من بعيد. هي حركة فكرية برزت في القرون الماضية كردة فعل على من يقحم الدين في أمور دنيوية غير مرتبطة به أصلاً، مثل السياسة والاقتصاد والاجتماع والعلم والثقافة (من مسرح وسينما وفن وغيرها)، هذه القضايا تحتاج إلى جهود إنسانية معرفية متعلقة بالإنسان نفسه. فالعلمانية هي مفهوم غربي بدأ في عصر النهضة الأوروبية، وتبلورت أفكارها أكثر بعد الثورة الفرنسية، حيث ظهر ميل الناس وتعلقهم الشديد بالإنجازات الثقافية والبشرية، وبإمكانية تحقيق الفرد طموحاته في هذه الدنيا، فهم (أقصد العلمانيين) يرون أن الدين وشؤون الكنيسة لا دخل لهما بشؤون الدولة، فالعلمانية برزت في مجتمعات لا دينية، ولكنها غير معادية للدين. الفكر العربي السائد يعاني أزمة ثقافية، حيث تخضع مجتمعاتنا لوطأة الثقافة الشعبية الموروثة التي تحمل وجهتي نظر متناقضتين؛ إحداهما تدعو للتمرد على الواقع وتغييره، وتحض على مجتمع العدالة والمساواة، أما الوجهة الأخرى فهي تدعو إلى التسليم بالأمر الواقع، ورفض أي محاولة تمس العادات والتقاليد الموروثة الجامدة، التي تروج لها جماعات الإسلام السياسي. لماذا يخوفون من الليبرالية والعلمانية، رغم حقيقة أن الليبرالية لا تشكل في الوقت الراهن تيارًا ثقافيًا وسياسيًا فاعلاً؟! فالأفكار الليبرالية تم الترويج لها إبان فترة محاربة الاستعمار والوجود الغربي، تدعو إلى الحرية الفردية والسياسية والاقتصادية والفكرية والدينية، وأهمية أن يخضع المواطن لسلطة القانون والدولة الدستورية البرلمانية، واعتماد حرية العقيدة والصحافة والاقتصاد الحر.. كل هذه الأفكار الداعية لتحرير الإنسان رفضت من الأنظمة قبل جماعات الإسلام السياسي. وأخيرًا نتساءل: هل يمكن أن تلقى الأفكار الليبرالية والعلمانية مجالاً للبروز، أو الوصول إلى السلطة في ظل الأوضاع العربية الراهنة..؟! إننا لا نبالغ عندما نؤكد أن السبب الرئيسي لتدهور الأوضاع العربية اقتصاديًا وسياسيًا وثقافيًا وحضاريًا يعود إلى زج الدين في السياسة، وعدم إيمان الأنظمة والشعوب بالديمقراطية الحقيقية التي تدعو إلى التعددية الفكرية والدينية واحترام الرأي والرأي الآخر، في ظل دولة مدنية عمادها الدستور والقانون، وتسعى للوصول إلى مفهوم العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص للجميع. فالحروب الأهلية التي مزقت السودان والعراق وسوريا ولبنان كلها، تعود إلى الفهم الخاطئ للدين الإسلامي والتفسيرات الدينية البعيدة كل البعد عن الإسلام الحقيقي الذي يؤمن بالتعددية الدينية والفكرية، ويدعو للتسامح وحب الآخرين.
مشاركة :