الحملة "الانتحابية" أو عندما تسقط نقطة الخاء سهواً

  • 10/7/2016
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

تحمل كلمة الحملة في دلالتها المعرفية الخاصة بي الكثير من المغزى للاتصاقها بمحطة عمرية مرت وتركت بصمتها في مخيلة طفلة لم تبرح الخمس سنوات، عندها أصيبت بمرض "لمكلفة في لمصارن"، هذا المرض الذي لا يصيب إلا المغاربة، أو أن له تقديراً ومصطلحاً طبياً يفهمه أهل التخصص. فبعد جولات من المد والجزر بين المستشفى ومواعيده وبين المنزل كانت رحلة البحث عن الشفاء من داء لم أكن أستشعره، بقدر ما كانت تستشعره والدتي، فلطالما وضعت يدها الباردة على جبيني، وأخبرتني بعلتي، وبارتفاع حرارة جسمي، كانت تصطحبني في مواعيد الطبيب إلى ذلك المستشفى الذي غابت عن ذاكرتي خريطته الجغرافية. كنت أدخل غرفة الفحص ويدي تمسك بوالدتي، وعيناي جاحظتان في الطبيب الذي يبتسم لي ملء فيه لي، غير أني كنت أدرك خطره عليَّ ولا أستسلم لتلاعباته واستلطافه المغشى بإبر مدسوسة. كنت أعشق في ذلك الموعد لحظة الختام؛ إذ انتهاء الزيارة المشؤومة والخروج؛ حيث كرسي قاعة الانتظار، وعيني تبرق على حقيبتي الوالدة التي تفتحها بعد كل انتهاء زيارة لتناولني الياغورت "دانون" والبسكويت، فحينها كان لـ"دانون" قيمته الرمزية داخل المجتمع المغربي، فلا يقدم إلا للمريض، حتى إنني تيقنت في وقت مضى أنه وصفة طبية تشترى من البقالة لا الصيدلية. وكنت أنتشي الوجبة كانتشاء آكلي الوجبات المرافقة للمهرجانات الخطابية للأحزاب السياسية اليوم، كنت أتربص تلك اللحظة رغم أوجاع المرض؛ لأنها تنسيني شقائي كما تنسي المشاركين في الحملة الانتخابية عطش وجوع ذلك اليوم، ويصطفون للظفر بلقيمات لن تكفيهم لأيام آتية، بقدر ما تشبعهم للحظة تدفع بهم للتصويت على الحزب الذي تفنن وأجاد ذهن الحلق حتى أنساهم رب الخلق. رحلات الاستشفاء لم تؤتِ أكلها إلا بعد تدخل أهل "العلم"، فجادت إحدى النساء بخلطتها الرهيبة التي كانت كالسِّحر لوالدتي، معربة "العليمة" عن أن هناك حملة مرض تصيب الأطفال، والحل "لمخينزة"، فاستقدمت والدتي العشبة السحرية وتبلتها بالبصل الأحمر و"شرملتني" وسقتني إياها. من وقتها دخل المصطلح معجمي، وبتُّ كلما استشعرت الألم أهرع لوالدتي "جاءني الحملة"، لدرجة أني استفقت ذات صباح على خبر أن أحد أقربائنا سيدخل الحملة الانتخابية، فهرعت إلى والدتي قائلة: فلان مريض بالحملة، فضحكت ملء فِيها، وردت: "الحملة الانتخابية باش يشوفوا شكون ينجح ويسير البلاد"، فأجبت "وراه الملك لي كايسير البلاد"، فعقبت "وياه هادوا لي كايعاونوه"، لعل قريبنا خاض الحملة، ولعل المرشحين يخوضون الحملة الانتخابية، أو بالأحرى "الانتحابية"؛ حيث يبكون ويتباكون بطرقهم المختلفة، وباستنجادهم لفئة لا يعلمون بوجودها ولا عنها إلا في ظرفية لا تتجاوز الأسبوعين، فترى فعلاً وكأنها القيامة بعد أن جاءت أشراطها. فما إن انطلقت الحملة الانتخابية لهذه السنة إلا ورأينا ذات حمل يختطف حملها، رأينا المرشحين يعربدون سكارى، وما هم بسكارى، وطفلاً تدلى من نهاية سلك كهربائي، معلناً انتكاسة تسيير سابق عجز عن احتضانه فقرر أن يريح أمه برسالة ستنهشها مدى الحياة. هي القيامة بعلاماتها وأشراطها عند يترجل الأعالي ويمتطون الأزقة الخوالي، يحيون يصافحون يقبلون يبتسمون في صورة بتوليف تتحقق فيها المتضادات، وترى فيها المستحيلات، ترى الناس تنزل من الكراسي، وتسير مشاة، تحيي هذا وذاك، وينتزع فيها المواطن العادي لقب "سيدي ومولاي". مرت السنون وبتنا كلما مرض أحدنا بمرض يعلق العلة على الحملة من باب أنها عابرة، وأنها لا تستحق زيارة طبية، حتى اكتشفت أن المصطلح لا يخصني وعائلتي فقط، فقد وجد المغاربة في هذا المصطلح تخريجة تثنيهم عن طرق باب المصحات والمستشفيات، خاصة أن لهم معها علاقة تنافرية بحكم القصص والتجارب المعيشة اليومية، حملة الأسنان، حملة "لمكلفة".. وغيرها. بل أكثر من ذلك أدركت أنها مصطلح ذو شأن وقيمة عندما سجل في معجم السياسة وبات دلالة على شكل وممارسة يقوم بها أفراد في ظرفية وجيزة لحصد أهداف لأجل غير مسمى، وكما أثنت حملات المرض المغاربة عن الذهاب إلى الطبيب، أثنت الحملات الانتخابية البعض عن الذهاب للتصويت، عندما بات المستشفى الحكومي غير ذي جدوى، بات الصناديق صناديق، لِمَ لا إن كانت الحملة المقرونة بالمرض "درباتها لمكلفة" فسُيّسَت وأصبحت حملة انتحابية.

مشاركة :