حينما يمر بتاريخ أمة زعيم يكون كقليل من الرجال ويكون منهجه هو العطاء وأن يلتف حوله شعبه يؤمن بقيادته ونقائه ويسير وراءه مؤمنا بأفكاره. وحين ولدت ثورة 23 يوليو (تموز) 1952 ومعها مجموعة من الرجال هدفهم خدمة وطن بإرادة ثوار حقيقيين واختاروا جمال عبد الناصر رئيسا لمجلس قيادة الثورة وزعيما لحركتها. وفي المرة الأولى الذي التقيت به كان في جامعة الإسكندرية مع طلابها في آخر 52، وفي هذه المرحلة من تاريخ الثورة كان الأميركان مؤيدين لجمال عبد الناصر أما الشباب فكان معاديا لهم وجزء منهم اتجاهاته يسارية، وأذكر أنه أثناء خطاب جمال عبد الناصر كان الطلاب والشباب يهتفون: «يسقط عبيد الأميركان». وكان معظم اليساريين على يمين جمال عبد الناصر فوجه إليهم كلمته قائلا بصوت قوي: «يا أهل اليمين..!»، ولما لم يستجيبوا غير خطابه قائلا: «وبالأحرى يا أهل اليسار..»! وأذكر كيف أن جي موليه رئيس وزراء فرنسا وقتها والمنحاز بشدة للمطالبة بأن تبقى الجزائر فرنسية قال أمام البرلمان: «إن كلمات جمال عبد الناصر تذكرنا بكتاب (كفاحي) لأدولف هتلر».. وظل التصعيد مستمرا حتى وصل إلى حرب العدوان الثلاثي الذي تآمرت فيه فرنسا مع إسرائيل وإنجلترا.. وتمكنت المقاومة المصرية من التصدي للعدوان الثلاثي. ولن ننسى كيف أن الجنرال أيزنهاور رئيس أميركا كان له وقفة تاريخية ضد العدوان الثلاثي. وفي مرحلة الخمسينات يجب علينا أن نتوقف أمام الصدام بين اللواء محمد نجيب ومجلس قيادة الثورة، ونجحت المعارضة المتمثلة في الإخوان المسلمين والوفديين في أن تقف بجانب الرئيس محمد نجيب، وأذكر المظاهرة الهائلة في ميدان عابدين مطالبة بانسحاب أعضاء مجلس قيادة الثورة. واضطر مجلس قيادة الثورة إلى التراجع والاستقالة من مواقعهم، وبعد مدة قصيرة نزلت قوى العمال والنقابات بمظاهرات قوية تطالب بعودة مجلس قيادة الثورة، وفعلا عاد المجلس إلى مواقعه، وانتهى الصراع باستقالة اللواء محمد نجيب، وبعد مدة انتصر جمال عبد الناصر بانتخابه رئيسا للجمهورية، وأصبح القائد والزعيم شكلا وموضوعا. ولكن القيادة والزعامة لا تمنع الأخطاء الحسابية، فقبل حرب يونيو (حزيران) 67، التي سميت بالنكسة، ارتكب الرئيس جمال عبد الناصر خطأ كانت تنتظره إسرائيل وأميركا، حينما أمر بغلق المضايق، وقامت إسرائيل بالعدوان على مصر. وكان للنكسة أثر هام على معنويات القيادة، ولكن لن ينسى التاريخ لعبد الناصر تصديه لآثار النكسة، فقام بتغيير قيادات الجيش الذين عينهم في الماضي المشير عبد الحكيم عامر، وكانوا من أسباب النكسة، وقامت مصر ببطولات لا تنسى في حرب الاستنزاف التي ضربت مواقع إسرائيلية هامة مثل إيلات. ولن نستطيع أن نفصل جهود حرب الاستنزاف عن معركة ونصر أكتوبر (تشرين الأول)، فلقد كانت حرب الاستنزاف تمهيدا لنصر أكتوبر 73. وعودة إلى جمال عبد الناصر لنقول إنه كان دائم الاهتمام بالبعد الاجتماعي، فقام بالإصلاح الزراعي وتصدى للإقطاع، رغم أن الموضوع كان خلافيا، ولكنه على كل الأحوال أرتفع بمستوى الفلاح المصري. وكان للتقارب المصري الروسي دور كبير في بناء السد العالي، حتى ولو لم يكتمل بكل جوانبه الزراعية بالذات، وتم أيضا بناء مشروعات صناعية هامة مثل الحديد والصلب. ولن ننسى دور جمال عبد الناصر وبجانبه الوزير المحترم الراحل الدكتور ثروت عكاشة الذي قام بدور عملاق في الميدان الثقافي والفني.. وكان ثروت عكاشة شخصية استثنائية، فلقد قدم للقارئ المصري مراجع هائلة في مجالي الموسيقى والأدب، كانت وستظل جزءا من ذاكرتنا. وبمناسبة الكلام عن الفن والموسيقى، لن ننسى العلاقة المتميزة التي كانت تربطه بسيدة الغناء العربي أم كلثوم التي رحلت عن عالمنا في 3 فبراير (شباط) 1975 وكانت دائمة التردد على بيته عائليا، وكانت علاقة عبد الناصر بأم كلثوم علاقة طاهرة نابعة من تقديره لدورها الفني العملاق الذي أسعد الأمة العربية كلها. وأذكر أنه حينما وصلت أم كلثوم إلى باريس لتغني في قاعة الأولمبيا الشهيرة التي يديرها رجل عملاق كو كاتريكس في 13 و15 نوفمبر (تشرين الثاني) 1967 لصالح المجهود الحربي بعد نكسة يونيو 67، وحضر معظم قيادات التمثيل العربي في فرنسا وأوروبا لاستقبال سيدة الفن قبل أن تتجه إلى فندق جورج الخامس الشهير، ومنذ اللحظة الأولى للقائنا توطدت علاقة حميمية مليئة بالمودة ووقفت طوابير لا تنتهي أمام شباك الأولمبيا.. ملأت قلوب الجميع بالشجن والطرب والسعادة، ولن أنسى حينما انتهى اليوم الثاني والأخير أنها طلبت مني إعداد رسالة إلى الجنرال ديغول رئيس فرنسا لتشكره على موقفه العادل من الصراع العربي الإسرائيلي، ولم تمر 24 ساعة قبل أن يصل إلى أم كلثوم رد على رسالتها وأهم ما قاله الرئيس الفرنسي: «أنت ضمير أمة..!». ومن طرائف زيارة أم كلثوم لباريس أن اثنين من شباب السفارة قالا على سبيل المداعبة للسفير عبد المنعم النجار: «طبعا سيادتك ستهرول للمطار لتكون في استقبال أم كلثوم»، ومن الغريب أن رد السفير كان: «ما دام أنها فنانة فإن ذلك من اختصاص المستشار الثقافي»، ولم يذهب للمطار ولم تغفر أم كلثوم للسفير هذه الغلطة في حقها، بعد أن تعودت على أن تستقبل بكل التبجيل والاحترام. وعند عودتها للقاهرة كانت أول زيارة لها لبيت الرئيس عبد الناصر الذي سألها عما إذا كان أعضاء السفارة قد قاموا بالواجب تجاهها.. وروت له ما حدث من السفير لتصفي حسابها مع عدم استقبالها في المطار! وبعد أسابيع قليلة تم نقل السفير النجار إلى القاهرة بالإدارة الثقافية للخارجية. فى حين أن عبد الناصر لم يغضب من السفير لإهماله إرسال برقية له مثل غيره من السفراء يطلب منه عدم التنحي بعد نكسة يونيو، كان هذا هو وزن وقدر أم كلثوم لدى القائد والزعيم جمال عبد الناصر. هذه المرحلة من تاريخ مصر التي عاشت قيادة وزعامة عبد الناصر وثورة 23 يوليو 52 بكل تقلباتها، كما عاشت هذه المرحلة العصر الذهبي لأم كلثوم أميرة الفن والغناء العربي وأقرب إنسانة إلى رئيس الدولة، تقديرا لمكانتها على مستوى الأمة العربية كلها.
مشاركة :