كتاب "التقشف... تاريخ فكرة خطرة" قيّم وثري بالمعلومات الموثقة المعروضة بشكل موضوعي، ويستحق قراءة معمقة لا سيما أن التقشف الاقتصادي أو ما يطلق عليه محلياً "ترشيد الإنفاق" مطروح بقوة في "الوثيقة الاقتصادية" للحكومة التي بدأ تنفيذها في ما يُسمى تحرير أسعار البنزين. ضمن سلسلة "عالم المعرفة" التي يصدرها شهرياً المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، كان عدد مارس 2016 ترجمة لكتاب قيّم عنوانه "التقشف... تاريخ فكرة خطرة" تأليف: مارك بليث، وترجمة: عبدالرحمن أياس. يستعرض المؤلف تاريخ التقشف في الدول الرأسمالية، ثم يوضح أن "كل الأسباب المقدمة لتأييد الرأي القائل بضرورة أن نتقشف جميعا (لأننا بالغنا في الإنفاق... إلخ)، والحجج المعروضة دفاعاً عن النتائج الإيجابية المفترضة لسياسات التقشف، أي أن التخفيضات تفضي إلى نمو، هي عموماً هراء خطر، لكنها تبقى الأفكار المهيمنة راهناً رغم تسببها في ضرر فادح. ويعود السبب وراء ذلك إلى موقف أيديولوجي، وبعض السبب وراء القوة الكبيرة وهيمنة هذه الأفكار الرديئة يعود إلى جذور مادية أيضاً". ثم يبين المؤلف السبب الذي دفعه لتأليف الكتاب، وهو يتعلق بعدم الإنصاف في سياسات التقشف، فيقول "كبرت في فقر (نسبي)، وعرفت أوقاتاً أذهب فيها إلى المدرسة حقاً وفي حذائي ثقوب، فمدخول العائلة كان شيكاً حكومياً، هو تحديداً معاش تقاعدي حكومي، إلى جانب منح متفرقة من والدي العامل اليدوي. أنا طفل لدولة الرفاهية، وأنا أيضاً فخور بالأمر. أنا اليوم أستاذ في جامعة مرموقة، وما مكنني من أن أصبح كذلك هو نفسه المتهم حالياً بالتسبب في الأزمة نفسها، أعني الدولة، خصوصاً دولة الرفاهية، المطاردة والمتخمة والأبوية والجامحة، فبفضل دولة الرفاهية البريطانية لم أعرف الجوع يوماً، فمعاش جدتي والواجبات المدرسية المجانية اهتمت بالأمر، ولم أفتقر يوماً إلى مأوى بفضل الإسكان الاجتماعي، وكانت المدارس التي التحقت بها مجانية، وأدت، في الواقع، دور سلالم الحراك للذين نالوا عشوائياً اليانصيب الجيني للحياة والمهارات اللازمة للتسلق... الذي جعلني أنا وكثيرين مثلي قابلين للوجود، دخل في الواقع فترة جمود، فبطالة الشباب في العالم المتقدّم بلغت في حالات كثيرة مستويات قياسية، وضاعفت سياسات التقشف هذه المشاكل، فتقليص دولة الرفاهية باسم إنتاج مزيد من النمو والفرص خرافة مُهِينة". ويمضي المؤلف ليؤكد "أن التقشف سياسات جيدة للمصارف لأن الذين يدفعون ثمن هذه الفوضى ليسوا هم الأشخاص أنفسهم الذين سببوها"، وعن صندوق النقد والبنك الدوليين يقول المؤلف "بعد تداعي نظام (بريتون وودز) لم يعد لصندوق النقد الدولي، حرفياً، شيء يفعله، ولكن دوره تغير فأصبح من (مراقبة صارمة) لسياسات الدول الأعضاء لزيادة الشفافية العالمية في العالم المتقدم على الأقل. لكن في العالم النامي أصبح (الصندوق) شرطة مالية وراء ما وصفت بأنها (برامج التعديل الهيكلي). ويلاحظ (داني رودريك) أن سياسات صندوق النقد الدولي في هذه الفترة، بمساعدة وتحريض من البنك الدولي، آلت إلى تعويذة تتعلق بـ"الاستقرار المالي والخصخصة وتحرير الأسعار"، وكانت النجاحات قليلة، ومتباعدة، وخاضعة لانتكاسات متكررة". ويلخّص المؤلف كتابه كالتالي: "إذا رغبت في مراجعة عامة للأمور المعرضة للخطر في المعركة حول التقشف فاقرأ الفصل الأول، وإذا رغبت في معرفة لماذا نُجبر جميعاً على التقشف، ولماذا انتهى المطاف بمجموعة من الرهون في الولايات المتحدة لتفجر الاقتصاد الأوروبي فاقرأ الفصلين الثاني والثالث. وإذا رغبت في معرفة مصدر اعتبار التقشف فكرة طيبة على صعيد نَسَبِها الفكري، فاقرأ الفصلين الرابع والخامس. وإذا رغبت في معرفة لماذا يبدو التقشف فكرة خطرة إلى هذا الحد فاقرأ الفصل السادس. وإذا رغبت في محطة واحدة لمعرفة السبب وراء الفوضى التي تعم العالم حالياً والتي طُلب منك أن تُسدد فاتورتها فاقرأ الكتاب كله". الكتاب قيّم وثري بالمعلومات الموثقة المعروضة بشكل موضوعي، ويستحق قراءة معمقة لا سيما أن التقشف الاقتصادي أو ما يطلق عليه محلياً "ترشيد الإنفاق" مطروح بقوة في "الوثيقة الاقتصادية" للحكومة التي بدأ تنفيذها في ما يُسمى تحرير أسعار البنزين، وهي تتضمن، بالإضافة إلى ذلك، سياسات اقتصادية منحازة اجتماعياً تشمل تخفيض الدعم الاجتماعي للسلع والخدمات الضرورية أو إلغاءه، وزيادة الرسوم والخصخصة الشاملة.
مشاركة :