صالح المنصور الصوت الأخير

  • 10/12/2016
  • 00:00
  • 103
  • 0
  • 0
news-picture

وقفتُ في المساء أتأمل «سكنة الليل»، وهدوء السماء، والناس بالجوار هائمون بلا شوارع تجمعهم، ولا محطات تستوقفهم سوى نوافذ الصمت الموصدة على مسامعهم، والأبواب غير المشرعة، كما كانت، والأسوار التي تعلوها أسوار، كأن مشانق الظلام تُسدل على أعين التائهين الضائعين وراء أجنحة السراب. ومع زورق الصباح، ونسيم الليل وهدئه آخر النهار، يجيء بلا خطى ثابتة، كأن الثواني يعتليها همسٌ، يتَّكئ على عكازه، هذا هو المنصور، له «كاريزما» خاصة به لا ينافسه عليها أحدٌ قط. صوتٌ ليس بـ «الرخيم» إذا نطق، وندَّد، وطالب بإصلاحات تمسُّ أفراد المجتمع صغيرهم وكبيرهم. هو صوتٌ متفرِّدٌ بخصوصيته، ولكنه في آخر الصف، وآخر المعلِّقين في أي أمسية أدبية حيكت خيوطها الذهبية في «أدبي الرياض». لا أحد يعي مفرداته، لأنه خارج السرب في عالمه الخاص، وربما هذا هو كوكبه الخاص بذاته، تعتليه نيران الوجوه الحالكة في الضباب، سرمدية الغسق لا ترى إلا ذاتها المتعالية المغلَّفة بكثافة النفاق الجائر. نعم، هذا هو مجتمعنا الذي يراه المنصور، وهذا هو الواقع الذي نشعر به، ولا نستطيع تغيير شيء إلا إذا بدأ كل واحد منا بنفسه. ربما تزداد الأمور حدةً، ويكون المجتمع أكثر انغلاقاً وتحيزاً ضد المرأة، وضد ما تحمله من فكر، فإذا وجدت أناساً يعزلون نساءهم، فاعلم أنهم مازالوا في حالة جهلٍ، إذ علينا أن نتخلص من كل ما يعرقل رؤيتنا المستقبلية، وتقدمنا الفكري؛ خاصة تلك التابوهات التي كُرِّست منذ قرون، ولم يطرأ عليها تغير يذكر، تلك التي كانت متعلِّقة بزمنها ومكانها الاجتماعي القديم، مما سرت مع الأجيال بلا تفكير ولا منطق يعيدانها إلى تراثها عِبرةً لا تطبيقاً. لا ظل سفينة ترسو على «شطآن الأمان» طالما أن هناك مَنْ يلوث المجتمع بأفكاره. هذا ما يراه المنصور، رحمه الله. للمنصور مقالة قديمة مصورة، نُشرت في صحيفة الرياض بعنوان «يا صانعي التاريخ الكل يقصر»، وربما تكون آخر مقالة نشرها، ولا تخلو من القصاصات كما قال لي، حيث وجدت في محتواها تحذيراً لحكام الربيع العربي، إذا لم يلتفتوا إلى شعوبهم، فإن التغيير قادم لا محالة، وأن هناك مؤامرة صريحة تحاك لـ «خارطة شرق أوسط جديد»، وهذا ما حصل بالفعل بعد مرور 10 أعوام من تاريخ المقالة، وكأنه يقرأ الأبعاد الاستراتيجية وهو المحذِّر من الغرب خاصة أمريكا، ولكن لا مجيب لأفكاره المتشظية كلماتُها هنا وهناك في أروقة الندوات والأمسيات، وقد نجد قصاصات ورقية كُتبت فيها أفكاره بـ «صومعته المتواضعة»، ومَنْ يدري ربما نجد كراسة رواية «شيوعي الرياض» التي وعدنا بها مراراً للرد على رواية «الشيوعي الأخير» لمؤلفها إبراهيم الوافي؟ هذا النادي بزواياه الأدبية بكل همسٍ فيه، ونديم، لا لون له بعد غياب المنصور الذي كان دوماً يشاكس كل مَنْ له صحبة متينة معه، أو يُدلي بمداخلاته المتكررة والمعاكسة لجوهر الحديث المعد لغرض ما. رحل ورحلت معه أحلام الأممية الواحدة، أحلام الوحدة الإنسانية بلا طبقية تميزها، ولا لون أو عرق يعتليها، سوى لون الدم الأحمر الذي يجمعنا. إنها أحلام كل إنسان سكنت قلبه العواطف ببياض الثلج ونقاء النفس. «وداعاً صالح».

مشاركة :