«جدتنا هي أم أمنا. قبل مجيئنا للعيش في بيتها لم نكن نعلم أن أمنا لا تزال لديها أم. نناديها «جدتنا». الناس ينادونها المشعوذة. تنادينا هي «ابنَيْ الكلبة»». (ص11) رواية «الدفتر الكبير» للروائية المجرية الأصل أغوتا كريستوف، (ترجمة محمد آيت حنا عن الفرنسية ، منشورات الجمل 2013)، ليست رواية عادية مألوفة من أي ناحية من النواحي الروائية أكانت متعلقة بالأسلوب أو اللغة أو المضمون أو حتى الإطار الزماني والمكاني. فرواية «الدفتر الكبير»، رواية الفضيلة الملتحفة بالجريمة، رواية الطفولة البريئة التي شوهت الحرب مفاهيمها وحثتها على طلب عدالتها الخاصة بأساليبها الملتوية، رواية الفكاهة السوداء المنقولة بواقعية باردة حيادية، وحياديتها هذه هي جوهر إبداعها وجماليتها. منذ صفحة الغلاف يلاحظ القارئ أن العنوان (الدفتر الكبير)، مرتبط بصورة ولدين توأمين صغيرين أشقرين جميلين، يلعبان ببراءة وهدوء جنبًا إلى جنب، ويحاولان اصطياد السمك على الأرجح. وهذا الصيد الموجود على الغلاف يشكل نواة قصة الصبيّين التي يرويانها بنفسيهما، لذلك سُميت الرواية باسم «الدفتر الكبير»، فهذا الدفتر هو الدفتر الذي يحمله الولدان ويدونان فيه أخبارهما وتفاصيل حياتهما عند الجدة. والولدان معًا هما راويا القصة، فنجدهما يستعملان ضمير المتكلم الجمع «نحن» دائمًا، من دون أن نتمكن من معرفة اسم أحدهما أو حتى أن نفصل الأفعال ونقسمها عليهما، فهما ووفق وصف الأب لهما: «إنهما يفكران معًا، ويتصرفان معًا. يعيشان في عالم آخر غير عالمنا. عالم لا يخص سواهما. وهذا ليس طبيعيًا. لا بل إن الأمر مقلق. أجل إني قلق لأمرهما. إنهما غريبا الأطوار. لسنا ندري ما الذي بوسعهما التفكير فيه. يتجاوزان سنهما بكثير، ويعرفان أكثر مما ينبغي أن يعرفا من الأمور». (ص 29) ووصفُ الوالد ابنيه، وصفٌ دقيق ومصيب؛ فالولدان القادمان من المدينة هربًا من الحرب والمجاعة والموت، الولدان المنبوذان من والدهما ووالدتهما على السواء، الولدان المنعزلان المنقطعان إلى عالمهما الخاص، يجدان ملاذهما في القرية القريبة من الحدود المجرية، في بيت جدةً فظة قذرة قاسية تستقبلهما بمجافاة وتجبرهما على العمل مقابل طعامهما وشرابهما ومنامتهما: «كان علينا القيام ببعض الأشغال لحساب الجدة. دون ذلك لا تطعمنا، وتطردنا ليلاً إلى الخارج». (ص 13). وعلى رغم صلابة الجدة وصعوبة العيش معها، نجدها امرأة مسنة وحيدة يعجز القارئ عن كرهها أو حتى النفور منها، بل قل يُعجب برجاحة عقلها ورصانتها وقدرتها على إدارة بيتها وجنينتها وكرمها وحيواناتها من دون احتياج أحد، وهي رغم تقدمها في السن، تجمع الفطر وتعتني بالكروم وتطعم الحيوانات وتحلب العنزات وتقوم ببيع منتوجاتها في سوق القرية، كما أنها تجمع الخشب وتقطعه للمدفأة وتعتني ببيتها. وبينما تقسو الأيام على الناس وتسلبهم الحرب منازلهم وسبل عيشهم، تمتلك الجدة قبوًا مليئًا بألذ الأطعمة من اللحم المدخن إلى مختلف أنواع الحبوب والمؤونة والمآكل التي تكفيها أشهرًا طويلة. أما مسألة الصيد الظاهر على صفحة الغلاف، فالصيد بحد ذاته ليس مسيطرًا على الرواية، إنما يظهر عند الولدين من خلال لذة القتل للقتل: لا للطعام ولا دفاعًا عن النفس ولا حتى خوفًا من شر محتمل. يتمرن الولدان على القتل كما يتمرنان على الكتابة والجوع والصمت وعدم الحركة والضرب وغيرها من الأمور الغريبة. فهذه التمارين برأيهما تقوي شخصيتيهما وتمنحهما مناعة إزاء قسوة العالم الخارجي. فنسأل أنفسنا عن صفات العالم الذي يعيش فيه هذان الولدان اللذان هما في العاشرة من عمرهما، عالم يجبرهما على إخضاع بعضهما بعضًا وعلى التمرن على العنف والشتائم والقتل والقسوة تعزيزًا لشخصيتيهما. وحشان أخلاقيان في بيت الجدة يمارس الولدان تمارينَ ويواظبان على تأديتها كل يومٍ بهدف تقوية شخصيتيهما في مواجهة شتائم جدتهما وضربها، وشتائم الناس المحيطين بهما وضربهما، وقسوة الحرب واحتمال حلول المجاعة بين يوم وآخر. فهدف هذه التمارين هو تقوية غريزة الحياة في نفسيهما، لتمتزج طيبة الطفولة بفساد الروح، وبراءة الصِغَر بسوء الطبع والمشاكسة، حتى يقف القارئ حائرًا عاجزًا عن إصدار حكم لمصلحة الولدين أو ضدهما. وبعد تمارين الضرب، تأتي تمارين تبادل الشتائم، وتمارين الامتناع عن الحركة أو الطعام أو الكلام أو حتى تمرين التسول؛ تمارين كثيرة متعددة الأهداف والوسائل، لكنها كلها تصب في خانة الانتقال من الطفولة إلى النضج، من البراءة إلى القسوة، من الخضوع إلى تسلم زمام الأمور. ونجد أن هذه التمارين توصل الولدين إلى خلق نظامٍ أخلاقي خاص بهما، من خلاله يعملان على تحقيق العدل حولهما. فهما يقيسان الأمور بمعاييرهما ويحكمان عليها انطلاقًا من ذلك، فنجدهما يبتزان رجل الدين ليأخذا منه المال ليقدماه لصديقتهما وأمها الجائعتين. الهدف نبيل ويهدف إلى إقامة العدل لكن الوسيلة دنيئة. وكذلك نجدهما يوقعان ساعي البريد أرضًا ويضربانه ويهددان بتركه يموت في البرد إن امتنع عن إعطائهما رسائل أمهما التي كانت الجدة تأخذها وتحرقها لأنها لا تجيد القراءة. ولا بد من ذكر قتلهما خادمة الكاهن التي كانت تحبهما وتعتني بهما وتحممهما وتغسل ملابسهما، لأن الجدة كانت تتركهما قذرين رثي الثياب، ونجدهما قد تسببا بتشوهها وانفجار النار فيها لأنها لم تعطِ فقيرًا الخبز بل راحت تأكل على مرأى منه وكأنها تتعمد إذكاء ألمه، فقاصصاها بأن وضعا المتفجرات في حطب المدفأة. أما قمة العدل والرحمة والقسوة في آن فهي حادثة وضعهما السم لجدتهما ومنحها موتًا رحيمًا كما أوصت عندما أصابتها جلطة ثانية في الدماغ بعد جلطة أولى كادت تصيبها بالشلل طيلة حياتها وهو أمر ترفضه. وتنتهي الرواية بعقاب الوالد، أو بالأحرى الرجل الغريب الذي عاد بعد سنوات طويلة من الإهمال والغياب، عاد ليطلب مساعدتهما كي يهرب عبر الحدود. وعلى رغم أن قصاصهما كان تمامًا ما يستحقه بسبب تركه إياهما، لكن ذلك لا ينفي قسوتهما وإجرامهما، فهما يدلان والدهما على طريق الهروب عبر الحدود ويعطيانه المخطط، ويتركانه يسير إلى حتفه كي يكون فأر التجربة الذي ستنفجر به الألغام، جاعلة بذلك الطريق سالكًا آمنًا لواحد منهما ليهرب إلى البلد الآخر سائرًا على خطواته. وهكذا تنتهي الرواية بانفصال الشقيقين وترك الأمور مفتوحة لتُستكمل في الجزءين الثاني والثالث من ثلاثية أغوتا كريستوف. إيجاز ومتانة يتبادل الولدان في «الدفتر الكبير» الأدوار، فكل منهما يكتب عن موضوع معين، لكون الرواية مؤلفة من نحو ستين فصلاً لا يتعدى الواحد منها الأربع صفحات. وقد وُضع كل فصل في موضوع يكون كتبه أحد الولدين واصفًا منحى معينًا من مناحي حياتهما، مثلاً «الخادمة والجندي الوصيف»، «الضابط الأجنبي»، «اللغة الأجنبية»، «صديق الضابط»... أما هذه الكتابة فلها معايير ليتم إدراجها داخل «الدفتر الكبير». ويذكر الولدان هذه القاعدة في الفصل المخصص لـ «دراستنا»: «ولكي نحكم على الموضوع بأنه جيد أو ليس جيدًا، هناك قاعدة بسيطة: على التأليف أن يكون حقيقيًا، أي يطابق الواقع. ينبغي أن نصف ما هو كائن فعليًا، أن نصف ما نراه، وما نسمعه، وما نفعله». (ص 35) «الدفتر الكبير»، رواية الطفولة والبراءة والمعايير الأخلاقية الملتحفة بالشر والفساد والقسوة والضلال، رواية الفكاهة السوداء الغريبة العبثية، والقريبة من مسرح بيكيت ويونيسكو، رواية الحرب والاستبداد والبحث عن العدالة ومحاولة إقامتها بأساليب ملتوية. «الدفتر الكبير»، رواية تداعيات الحرب على الطفولة وعلى الشيخوخة وعلى ما بينهما من أبوة تفقد معناها وأمومة تخسر أهم صفاتها وبنوة لا تشعر بالانتماء إلى عائلة. موضوعات كثيرة مكتوبة في جمل قصيرة وفصول دقيقة، ومعجم سهل بسيط يجذب القارئ ويوقعه في فخ واقعية حيادية تحولها حياديتها إلى وحشية باردة مقنعة. رواية
مشاركة :