ينتمي فيلم «ماتبقى لنا: رسائل كنفاني» (53 دقيقة) للمخرج اللبناني جاد أبي خليل إلى تلك النوعية التي تهجس بشيء، وتتعداه الرؤى إلى شيء آخر سواه. ظاهرياً قد يبدو أنه اختار أن يقدم قراءة أربعة فنانين فلسطينيين لبعض رسائل غسان كنفاني كل بطريقته، أو هي في الحقيقة بعض القصص التي قدمها على شاكلة رسائل. الفيلم من إنتاج محطة «الجزيرة الوثائقية»، وعرض قبل مدة وجيزة على شاشتها، ولم يكن ممكناً مروره من بين عشرات الأفلام من دون قراءة فيه، بسبب رسائل غسان، وبسبب الطريقة التي اختار فيها المخرج تقديمه. «ما تبقى لنا» ليس فيلماً بالطبع عن كل رسائله. لايمكن ادعاء ذلك بأي حال من الأحوال. مايعني أن مايقدمه المخرج هو محض رؤية مغرقة في ذاتيتها، وهذا من حقه، لكن توزيع الأدوار على شخصيات بعينها قد يخلق إشكالاً من نوع التساؤل عن السبب الذي يتيح ظهورها دون سواها. بمعنى ما الذي يربطها إلى تجربة غسان كنفاني، وماهي الصلة الأدبية والفنية التي تسمح بظهورها في الفيلم؟ وألم يكن ممكناً اختيار سواها بالطريقة ذاتها وللأسباب ذاتها، إذ يمكن تكليف شخصيات أخرى بمحاكاة الرسائل، وعدم الاكتفاء بأربع منها، طالما أن العدد لايحمل رمزاً، أو هو غير محمل بالرموز، التي تحمل رسائله الكثير منها، ولم يكن ذلك ممكناً، لأن هذا قد يحدث تزييفاً في الشغل بالصورة، بالتأكيد لايرغب صاحب «عرفات» فيه. يختار جاد أبي خليل خبير الإضاءة علاء ميناوي ليقدم رؤيته الشخصية لقصة «العروس». لم يكن مفهوماً مغزى كتابة بتصرف، طالما أن ميناوي يقدم معادلاً بصرياً للقصة، من خلال تكنيك المسرح والإضاءة، إذ ينطلق من تصميم طرحة العرس البيضاء، ويتركها لتتداخل مع لباس جلدي رجالي ينزل من الأعلى، وتغطي المشهد حلقات الأدخنة الشائعة في السينما والمسرح، ويغطيها بعبارات مستلة من القصة نفسها، وكأن كنفاني كان يقصد هذا بالذات. إن سلمنا بالمحاكاة الشخصية للرسالة، وهذا أمر وارد، يبقى أن محاكاة الرموز بمعادل من النوع نفسه يشكل خطراً على بنية الفيلم، لأن تقديم شروحات بعينها، لايعد تزييفاً لبنية الفيلم فقط، بل انتهاكاً للحلول البصرية، واللغة التي تنتج من رموز القصة. فاللغتان مختلفتان بالكامل، وليس محبذاً الانتقال من طريق شرح القصة بأدوات واقعية إلى صنع معادل لهذه الرموز، وملء الفراغ الناتج بالكلمات. قد يبدو مفهوماً ميل المخرج إلى البحث في الرسائل عن إشباع رغبته في تقديم فيلم عن غسان كنفاني، أو هو محاولة ضمنية لانتزاع رسائله من غادة السمان التي نشرت رسائله لها في فترة سابقة، مع أن محاولة أفلمة هذه الرسائل قد تبدو واقعية أكثر، لأن العلاقة التي ربطتهما، حتى في ظل غياب غسان يمكن الشغل عليها في حضورها، وهذا رابط درامي قوي، لكن فيلم «ماتبقى لنا» يشذ في بعض دقائقه عن الخط الذي رسمه لنفسه، فيقدم لنا سميرة صلاح زوجة القيادي في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين لتقول شيئاً من ذكرياتها الشخصية عنه، وكذلك الحال بالنسبة لآني كنفاني رفيقة عمره ونضاله، فمن المفترض أن يلتزم الفيلم خطوط الشخصيات الأربع من دون الاتكاء على شخصيات لم تقدم شيئاً للفكرة، حتى مع تلك الصبية الفلسطينية التي تربت في روضة غسان كنفاني في مخيم عين الحلوة، وحالت الأوضاع الأمنية غير المبررة دون التصوير داخل المخيم، مع أن هناك أفلاماً كثيرة صورت في داخله أخيراً من طريق الكاميرات الخفيفة التي لم تعد تثير ريبة أحد. ما ينطبق على علاء ميناوي يسري على المصورة الفوتوغرافية داليا الخميسي التي تقدم عبر الصور الفوتوغرافية قراءة خاصة لـ «ورقة من غزة» وقد تمكنت يوماً من تصوير فتاة سورية وهي تقفز على الحبل، وأرادت أن تكرر محاكاتها في اللقطات ذاتها في أزقة مخيم من مخيمات بيروت (مارالياس). هذا القسر في المحاكاة يخلق مزاجاً «عرفياً» لايمكن التفلت منه، إذ يفرض نفسه بقوه على مسار الفيلم بالكامل، حتى يبدو أن مايقدمه عبد الرحمن قطناني في محاكاته لقصة «موت سرير رقم 12»، وهي تبدأ أصلاً على شاكلة رسالة لاتعدو أكثر من محاولة تضليل في فهم قصة محمد علي أكبر الذي يريد الزواج من فتاة تعرف عليها مصادفة، لكن وجود لص يحمل الاسم ذاته يمنعه من تحقيق حلمه، فيتحول حقده على شقيقته التي قدمته لأهل العروس بوصفه محمد علي، ولم تقرن اسمه بكنيته، ماتسبب برفض والدها عقد قرانه عليها. الرمز الأكبر في القصة يتجلى في الصندوق الذي يتركه في أحد مستشفيات الكويت حين يموت من علة في الدم، ويكتشف القارئ أنه كان فارغاً إلا من بعض الفواتير، وحلق خزفي كان قد اشتراه لشقيقته. سيكمل قطناني مهمة عمل صندوق ويترك فيه بعض المطرزات ولعبة صغيرة من القصدير يقوم بقصها ووضعها فيه. لانعرف ما إذا كانت محنة محمد علي أكبر الوجودية الكونية قد وجدت ضالتها في هذا الصندوق المزيف، لكنها بدت محاولة متواضعة لجهة قراءته. وكما جرت العادة في كثير من الأفلام الوثائقية العربية التي تستثمر في ظاهرة مغني الراب الذين يظهرون في ختام الفيلم بدل توظيفهم في إضفاء تصعيد درامي على خطوطه منذ دقائقه الأولى، كأن يصبح الغناء وسيلة له بدل تحويله إلى بهارات الختام، يظهر مغني الراب الفلسطيني السوري المقيم في لبنان رائد غنيم ليكمل هذه المهمة في النهايات، فيقدم قصة «في جنازتي» في أغنية له. ما تبقى محاولة جسورة لعمل فيلم من رسائل غسان كنفاني وقصصه انتهت بزواج قسري مع شخصياته، وكان يمكن توجهيه بطريقة مختلفة ربما، من خلال رؤية مختلفة وأكثر وضوحاً.
مشاركة :