يعاني الفكر القومي العربي لدى بعض دعاته ومريديه والمؤمنين بحتمية انتصاره النهائي، من الاغتراب والرومانسية والرهانات الأيديولوجية الواهمة، إذ لا يزال مصراً، على رغم كل الأحداث الدرامية والتحولات غير المسبوقة التي زلزلت العالم العربي في السنوات الماضية، على تبنّيه مقولات أسقطها التاريخ أو أنها باتت في موضع الشك والمساءلة، ولم يعد في الإمكان الدفاع عن مشروعيتها. على رأس هذه المقولات، مقولة أن الوحدة العربية «هدف للأمة بمعظم طبقاتها وفئاتها، وبمعظم أحزابها ونقاباتها وجمعياتها وتياراتها الفكرية»، على حد تعبير أحمد يوسف أحمد في كتابه «قراءات في المشروع النهضوي العربي». نتساءل إزاء مقولة كهذه: لو كانت الوحدة العربية هي فعلاً كذلك، فلماذا وصلت الأمة الى هذا الحد من التفتت والتفكك والانحلال؟ ولماذا فشلت إذاً كل المشاريع التوحيدية، فيما المحصلة المأسوية بعد أكثر من قرن على قول نجيب العازوري بوحدة المشرق العربي، ودعوة أنطون سعادة الى وحدة سورية الطبيعية، تمزق مريب لوحدة الأقطار العربية وانشطار لمكوناتها الأهلية يهدد مستقبلها كأوطان، ما لم يحدث حتى إبان الحكم العثماني؟ وإذا كانت الوحدة العربية هدف الأمة بأحزابها وطبقاتها وتياراتها، فماذا عن الأحزاب الطائفية والتشكيلات الأقلوية، الإثنية والدينية والمذهبية، التي تمثل مكونات أساسية في النسيج الاجتماعي العربي، ولم تكن الوحدة العربية في طليعة همومها واهتماماتها؟ وهل كان تطلع المفكرين العرب وبعض النخب العربية في العصر الحديث والمعاصر، الى الوحدة العربية، أم الى وحدات أخرى، في مقدّمها، وحدة الأمة الإسلامية، أو وحدة السلطنة العثمانية أو الوحدة المشرقية أو وحدات أخرى إقليمية؟ وكيف تكون الوحدة هدفاً لكل الطبقات، فيما هي تتعارض مع المصالح الطبقية للدول والطبقات التي تريد الحفاظ على امتيازاتها الطبقية وترفض تقاسمها مع سواها من الدول والطبقات، في ظل فوارق كبرى في الدخول بين أغنياء العرب وفقرائهم؟ وإذا كان ثمة إجماع على وحدة الأمة بين التيارات والأحزاب والجمعيات، فليست «الأمة العربية» هي موضع الإجماع، بل الأمة بمعانيها المختلفة والمتناقضة، الإسلامية، الإقليمية، العربية، الاشتراكية؟ ومن المقولات المتداولة في الفكر القومي العربي الراهن، أن الوحدة العربية تفترض الديموقراطية، كونها النظام الكفيل بتحقيق مبدأ المواطنة، وحل مسألة الاندماج الاجتماعي والقومي، وكونها الطريق المضمون للنهضة وتعزيز اللحمة الوطنية. هذه بدورها مدعاة للتساؤل والنقاش، حيث أثبتت التجربة العربية والحركات الشعبية في الآونة الأخيرة في غير قطر عربي، أن الديموقراطية كانت، في غياب خلفيتها الليبرالية، سبيلاً لتفتيت المجتمعات العربية وتشظّيها الى مكوناتها الأهلية، القبلية والعشائرية والطائفية، بدل أن تعزز اللحمة الوطنية وترسّخ الاندماج الاجتماعي. فقد نالت الديموقراطية من قوة الدولة في مجتمعات ما قبل حداثية لا يمكن التئامها خارج قوة الدولة وهيمنتها الفوقية. أما المقولة الأكثر تداولاً، فتتمثل في الزعم أن حضارتنا العربية الإسلامية قد زودتنا بمبادئ النظام الديموقراطي، من دون الأخذ في الاعتبار الأسس الفلسفية الحداثية التي يتأسس عليها هذا النظام، وأولها المساواة التامة بين الناس ومرجعية العقل الإنساني المطلعة في الوجود السياسي والاجتماعي، ما يتعارض جوهرياً مع شورى أصل الحل والعقد الإسلامية. لا يخرج الفكر القومي من هذا الإشكال بالإصرار المتواتر على القول بمنظومة معرفية عربية منفصلة عن المنظومة المعرفية الغربية، وأنه ليس من الضروري القبول بحداثة الغرب وتقليدها، بدعوى وصولها الى طريق مسدود وعدم تحقيق الرفاهية والعدالة لشعوب الغرب. يتجاهل هذا القول أن الحداثة كما تبلورت في الغرب، حققت لشعوبها ولشعوب العالم قاطبة، إنجازات هائـــلة في الاقتصاد والعلم والسياسة والاجتماع، من دون أن تدعي الكمـــال، ومع إقرارها بالنســـبية وارتدادها الدائم على ذاتها بالنقد والمراجعة. وفي أفضل الأحوال، لن تكون حضارتنا التاريخية، على عراقتها وأصالتها، ذلك البديل الموعود لآفات الحضارة الغربية وعللها. لا نأخذ من كل تلك المقولات التي تربك الفكر القومي العربي مبرداً لإدانته، أو التشكيك في نوايا المبشرين بمبادئه وأطروحاته، بل إن ما نصبو إليه، هو الارتقاء بفكرنا القومي الى التحدي الذي تشكله تحولات عالمنا المعاصر، والبحث تالياً في المستقبل العربي بوصفه سعياً دؤوباً يرفده العقل، ويتعامل مع التاريخ باعتباره مساراً من صنع الإنسان وإرادته، في حين أنه ما من شيء منجز وما من مقولة ثابتة ونهائية، إنما الثابت الوحيد هو التطور والإرادة الإنسانية الصادقة في سعيها الحثيث الى وحدة العرب وتقدمهم بعيداً من كل تلك الأطروحات الفائتة والمستهلكة، فقد آن الأوان كي نتخلّى عنها لنعمل من أجل الوحدة العربية، من حيث هي ممكنة، لا من حيث هي واجبة وفق تصوراتنا وأوهامنا. * كاتب لبناني
مشاركة :