إذا أردت دليلاً على صعود الشفافيّة في علاقة الدول مع الشعوب في الأزمنة المعاصرة، فالأرجح أن يقدّم لك «الربيع العربي» ومساراته وآلامه ومأسيه، مثلاً واضحاً على ذلك. إنسَ «فايسبوك» والحكايات التي نسجتها المخيلات عن قدراته الفائقة في تحريك الشوارع والحشود. صارت تلك قصصاً بائدة. وكذلك هي تستبطن في شكل أو آخر صورة البطل والقائد والمخلص وغيرها من أشكال القيادة «من فوق». على عكس ذلك تماماً، قدّم «الربيع العربي» مشهدية عن صعود الجمهور المتلقي، مستنداً إلى قوّة الشفافيّة التي قدّمتها المعلوماتيّة والاتصالات المتطورة. إنّه انقلاب فعلي متعدد للأمور، بل يصعب الإحاطة بأبعاده كافة، على رغم سهولة القول إنّه يسير «من تحت»، ليضع من هم في قمة الهرم (في حقول تمتد من الإعلام إلى السلطة السياسيّة) على محك الشفافيّة الصعب. في بواكير «الربيع العربي»، راج تماماً القول إن كل شخص كان بإمكانه وضع الدولة على المحك، بمجرد أن يرفع الخليوي ويلتقط صوراً أو أشرطة فيديو قصيرة، ثم يلقي بها إلى أيدي جمهور الـ «سوشال ميديا». في سورية، يرد في الذهن أن مقتلات حلب وحماة في عهد الرئيس السابق حافظ الأسد، ما كانت لتبقى حكايات تروى ولا تترك صدى (إلا حيث تحرق الجمرة)، لو أن الإعلام الرقمي ومواقع التواصل الاجتماعي كانت حاضرة آنذاك. وعلى مدار 5 سنوات، دأب نشطاء سياسيّون واجتماعيون وإنسانيون، على بث المأساة السوريّة بالصورة والصوت، على امتداد العالم. وتحوّلت أشرطة الخليوي والهاتف الذكي مواداً إعلاميّة انتشرت عالميّاً، وانتقلت إلى شاشات السينما (مثلاً، فيلم «باب شرقي»)، وتلفزة الأقمار الاصطناعيّة، بل أيضاً قصصاً مصوّرة في المجلات كـ «أم من مضايا» أخيراً. إذاً، ساندت الشفافيّة الدولية ذلك الصعود الواسع لمن كان تابعاً - متلقيّاً، ليصبح صانع حدث وموثّق تاريخ، والأهم أنها وضعت على محك الصدقيّة الدولة والزعماء والقادة والرؤساء والصحافيين والممثلين و... والقائمة تطول. كاميرا في الأجواء خلال العقدين الماضيين، دفعت ثورة المعلوماتية والاتصالات بسيل من الأدوات التجاريّة التي تمكن من التوسع في المراقبة المستمرة، شملت الهواتف الذكيّة، وأجهزة فحص العين، وأدوات التعرّف على الوجوه، التقاط البصمات، وفحص الأجساد والأشياء بالمسح الضوئي، وتطبيقات التعرف على خرائط الأمكنة، والأقمار الاصطناعيّة وغيرها. صحيح أن كثيراً من أدوات المراقبة تخدم الدولة، كتلك المستخدمة في المطارات، لكن انخفاض سعرها والتوسّع في إنتاجها، يجعلها مرشّحة للوصول إلى أيدي الجمهور بسرعة. من كان يتصوّر قبل زمن ليس بعيد، أن العابر في الشارع يحمل في يده خليوياً فيه برنامج كـ «سباي مي سات» SpymeSat يخبره عن نوع القمر الاصطناعي الذي يمر فوق رأسه في تلك اللحظة؟ ومنذ مطلع الألفية الثالثة، صار التصوير الفضائي متاحاً بصورة تجارية. وفي 2015، سمحت أميركا ببيع صور فائقة الدقة تلتقطها الأقمار الاصطناعية، تظهر فيها أشياء على الأرض حتى لو كانت بطول مسطرة مدرسيّة. وحاضراً، هناك شركتان كبيرتان تملكان أسطولاً صغيراً من الأقمار الاصطناعيّة المختصة للتصوير الفضائي، هما «ديجيتال غلوب» Digital Globe و«إيرباص ديفانس أند سبايس» Airbus Defense Space. وتأتي أرباحهما من بيع صور الأقمار الاصطناعيّة للأفراد والمؤسسات. وعلى رغم أنهما تملكان أقماراً اصطناعيّة ضخمة مجهّزة بكاميرات متقدّمة، إلا أن أسطولهما الفضائي لا يغطي سوى 5 في المئة من مساحة اليابسة يوميّاً، ولا تعود لتصوير المنطقة عينها سوى مرتين يوميّاً. ولم تعودا تمثّلان سوى «الماضي» في التصوير بالأقمار الاصطناعيّة التجاريّة. وحاضراً، يقتحم ذلك الحقل جمع من الشركات التقنية الصغيرة في «وادي السيليكون»، تعقد رهانها الأساسي على الأقمار الاصطناعيّة المصغّرة («مينيتشر ستالايت» Miniture Satellites). ويزيد في المنافسة أن سوق التصوير الفضائي وصل إلى 2.5 بليون دولار في 2014، مع توقع ارتفاعه إلى 6.5 بليون دولار سنويّاً في غضون بضعة أعوام. تقدم تقني إسرائيلي في سوق صاعدة ربما يكون مؤلماً القول إن لا دولة عربيّة تصنع أقماراً اصطناعيّة، فيما تتصدر إسرائيل تقنية الأقمار المصغّرة وصولاً إلى ما يشبه الـ «نانو» أقمار اصطناعيّة. وفي السياق عينه، تمتلك شركة «بلانيت لابس» Planet Labs الأميركيّة (مقرّها «سان فرانسيسكو»)، أسطولاً من 37 قمراً مصغراً، لكن مئة قمر مشابه لحقت بها في 2016، ما يتيح لـ «بلانيت لابس» تقديم صور فضائيّة عن كامل مساحة اليابسة في الكرة الأرضيّة، بدقة متوسطة، كل 24 ساعة. وفي السنة الحالية، وضع محرك البحث «غوغل» قمرين مصغّرين في مدار حول الأرض. وتفاخر «غوغل» بأنهما يرسلان صوراً وأشرطة فيديو عالية الدقّة، وهي من الأمور التي ليست شائعة في الأقمار المصغّرة التجاريّة. وتضمن برنامج شركتين أميركيتين أخريين، إطلاق أقمار اصطناعيّة مصغّرة تحمل رادارات تعمل بأشعة إكس، كي تلتقط صوراً فضائيّة حتى في الأحوال الجويّة السيّئة. ومع حلول العام 2021، ستطوّق الأرض بأسطول فضائي يزيد عدد أقماره المختصة بالتصوير، على 600 قمر. ويمثّل ذلك الرقم زيادة بمقدار 7 أضعاف عن عدد الأقمار الاصطناعيّة المشابهة حاضراً. وتالياً، يتوقّع أن تنخفض تكلفة الحصول على صور فضائيّة لبقعة ما على الأرض، إلى عُشر ما هو عليه اليوم. وعلى غرار المعلومات المكتوبة، تحتاج تلك الصور الفضائيّة إلى من يتولى تحليل محتوياتها واستخراج معلومات مفيدة منها. وتعرف الشركات جيّداً أن تلك المهمات ستنتهي إلى أيدي الذكاء الاصطناعي وأدواته ومعادلاته الرياضيّة، لأن إنجاز تلك المهمات بأيدي البشر يستلزم جيشاً متفرغاً. وهناك شركات في «وادي السيليكون» شرعت فعليّاً في إعداد برامج مؤتمتة وتطبيقات ذكيّة، للتعامل مع صور الفضاء وبياناتها. ولا تقتصر فائدة صور الفضاء ومعلوماتها على الشركات والمؤسسات والدول. وفي الوقت الحاضر، تستفيد وكالات الأنباء والصحف الكبرى والمواقع الإخباريّة الشبكية، من صور الأقمار الاصطناعيّة لردف محتواها الإعلامي. وحدث ذلك بكثافة في أوكرانيا وحروب سورية، ما يعني أن عين الشفافيّة وصلت من الفضاء، إلى أمكنة كان يصعب تغطيتها لولاها، أقله ليس على النحو الذي جرت فيه. وفي بحر الصين الذي يشهد صراعات مازالت تحت السيطرة لحد الآن، ساهمت شفافية التصوير الفضائي في حفظ السلام فوق تلك المياه المضطربة سياسيّاً. ومثلاً، أفرد «مركز الدراسات السياسيّة والإستراتيجيّة» في واشنطن، موقعاً مختصاً بالصراعات في بحر الصين. ويحمل الموقع اسماً مختصراً هو «إيه أم تي آي» AMTI. واستطاع رصد نشاطات صينيّة كثيرة، لم تكن حكومة بكين لتقر بها، لولا الصور التي قدّمها «إيه أم تي آي»، ما ساهم في تخفيف التوتر بين الصين ومجموعة الدول المجاورة لها في تلك المياه التي تجذب اهتماماً إستراتيجيّاً فائقاً من الولايات المتحدة.
مشاركة :