العشب الأخضر

  • 3/9/2014
  • 00:00
  • 10
  • 0
  • 0
news-picture

ثريا الشهري ابتذلت أسماء الجامعات العريقة في أميركا، بخاصة جامعة هارفرد، فكل يوم يطالعك اسم فلان العربي الذي اعترفت الجامعة بألمعيته ومنحته كذا وكذا، وتقرأ الخبر وتنتهي منه ولا تعرف الشهادة في أي تخصص، وأي اختراع في أي إنجاز، مجرد رص لكلمات وعناوين رنانة، أو قل لها وقعها عند العرب. فهي نفسها لو قيلت بين أهلها وبين جماعة الهارفرديين لكانوا «فقسوها»، ولكنها بيننا تعيش وتعتاش، وتلتصق بصاحبها ويُعرّف بها، مثل الإعلامي العلاني، ويقدم نفسه في أحاديثه بـ«خريج هارفرد»، مع أنها مجرد دورة من شهرين لم يكن لها أن تستفحل بأكثر من سطر، يحجز في ملخص السيرة الذاتية أو إذا دعت المناسبة، أما أنه خريج الجامعة فهذا معناه أنه درس بهارفرد طوال سنواته الجامعية، سواء في مرحلة البكالوريوس أم الدراسات العليا. ولو أنه فعل بحق لما كان بهذه العقلية الشوفانية الاستعراضية، لتعوّده على الوضع واعتباره الشيء الطبيعي لمجهود بذله خلال بحثه ودراسته، ولكن من يقفز ويخطف دورة وورشة وفصلاً دراسياً يتيماً، بورقة عليها ختم «هارفرد» وشعارها، فستجده وأقاربه ومعارفه يلوكون في تكرار السالفة، فلا يرد اسم الشخص إلا ويُزج بذكر الجامعة، وكأنه اعتذار عن انتقاده وهو نتاج هارفرد، أو بمعنى الولد العاق الذي خيب ظن هارفرد «وما جابت خبره». المهم أن كلمة «هارفرد» ستلتقطها أذنك، وربما يهونها ويبررها نوعاً ما لو كان الشخص يستحق الجعجعة، ولكنه مجرد ادعاء واستغلال جهل الآخرين بحقيقة الأمور، وتراتيبها في الأوساط العلمية. فمثلاً، العالمة الشابة التي إن نجحت في شيء فهو في تسويق بضاعة، إلى اليوم لا ندري مضمونها ولا كنهها، أو كما تحدتني زميلة أعتد برأيها أن آتي على تحديد الابتكار العلمي الذي تفتّقت عنه عبقرية هذه العالمة بالذات، وعندما استدركت بأن الأبحاث العلمية لها منشوراتها ومجالاتها، والأكيد أن علم تلك العالمة موثّق بها وموسّع، ضحكت زميلتي وعلّقت: وهذه هي الثغرة. فلا نفهم منها شيئاً نتذكره، لا في مقابلة ولا في تصريح، ولا يقنعنا مستوى ثقافتها، فنكذّب أنفسنا ونحيل حيرتنا إلى جهلنا العلمي، وحتى لحظتنا لم يصل إلى علمنا المتواضع «هي عالمة في إيه»؟ فهل من تعقيد هذا العلم الخطر والمستعصي على التفكيك ليستوعبه الشعب البسيط؟ في زيارتنا إلى بريطانيا خلال رحلة صحافية خليجية عام 2011، كانت جامعة كامبريدج التاريخية مدرجة ضمن جدول الزيارة، فكان لحماستنا وعند وصولنا التقاط لبعض الصور التذكارية. ولأننا صرنا داخل الصرح الجامعي فمن الطبيعي أن تدوس أقدامنا العشب الأخضر، على الأقل لاتخاذ الوضعية الأفضل للصورة، فلما اجتمعنا بالطاقم الإداري والتعليمي لاحقاً، كان العشب الأخضر أول الفاتحة. إذ لم نكن نتصور أنه لم يكن من الجائز أن نطأه بأقدامنا، وإنما السير على الممرات المرصوفة بالحجر، ولم يشفع لنا سوى كوننا من الزوار ممن لا علم لهم مسبقاً بالتعليمات. فسألنا عن الفلسفة: من وراء هذا المنع؟ وهل تكون لسلامة العشب وجمال المكان؟ فإليك الجواب وأطربني: «كل كلية في جامعة كامبريدج وتعتز بمكانتها فلا يحق لأحد دوس عشبها إلا طاقمها وحده، ولو حصل أن أحدهم من كلية أخرى مجاورة وإن تابعة لكامبريدج تجرّأ وداس على عشب كلية غير كليته فعليه تقع العقوبة المقررة، وذلك حرصاً على هيبة واستقلالية كل كلية، فلا تُبتذل ولا يُستخف بحرمها». وبسبب هذه السياسة وهذا الانضباط ولا أعني العشب بقدر ما هو المبدأ نفسه حافظت جامعتا أكسفورد وكامبريدج على تاريخهما الأكاديمي العريق من ابتذال المارة من أصحاب الدورات والفصول الدراسية «الطيارة»، والأغراض الشخصية التسويقية، وهذه هي الصدقية ولها ثمنها الصعب، مع أن الجامعات الأميركية الكبيرة وعلى ما يبدو ربما تخففت في شروط قبولها وتقديم عروضها قصيرة الأجل، ذلك أن استقطاب الكفاءات الأكاديمية والصرف السخي على الأبحاث العلمية بنتائجها وإنجازاتها الإنسانية له رقم من أصفار عدة، لا تفي به موازنة الجامعة أحياناً، فتضحّي على مضض وتسمح لبعض الأقدام بوطء عشبها الأخضر في تجاوز، ليس عن استحقاق لهذه الأقدام، ولكن عن ضرورة. وإن كان بعضها أثبت أنه أهل للعشب ومكانه، ويظلون ندرة.

مشاركة :