الشارقة: محمد ولد محمد سالم سيرة الفنان يوسف العاني الذي رحل عنا قبل أيام هي سيرة المسرح العراقي منذ تأسيسه إلى مراحل تطوره وازدهاره، فقد طبعت مسيرة هذا المسرح في كثير من جوانبها بمراحل العطاء المتدفق لهذا الرائد المبدع، لم يكن المسرحي الأول في تاريخ العراق، فقد سبقه آخرون، لكنه أحد المؤسسين الحقيقيين لهذا المسرح، وقد تقلب في فضاءاته ممثلاً وكاتباً ومخرجاً، وتقلب معه وعيه بالمسرح، وطرق معالجة الواقع العراقي، ذلك الواقع الذي حمله معه أينما ارتحل، ونَشَده أينما حل، فقد عاش للعراق، ولشعب العراق، وآلام العراق يضمد جراحه، ويربت بيده الفنية الحانية على كتف إنسانه. ولد العاني في عام 1927 في الأنبار، وانتقلت به أسرته إلى بغداد صغيراً، وهناك فتح عينيه على بدايات الوعي التحرري، والكفاح ضد الهيمنة الاستعمارية، في وقت كان فيه العراق خاضعاً للاحتلال البريطاني، وقد بدأت الأصوات الوطنية ترتفع منادية بالتحرر من هيمنته، فكان العاني وهو طفل في حي سوق حمادة في بغداد يعاين تلك الأصوات ممثلة في الاحتجاجات التي ينظمها نشطاء وطنيون، ومن هنا بدأ وعيه السياسي الوطني يتشكل، وصاحب ذلك التشكل في الوعي تشكل في مواهبه الفنية من خلال ممارسة المسرح، الذي بدأ فيه ممثلاً، يقف على خشباته ليصدح بالرؤى التحررية، والعبارات المحرضة والوقوف في وجه المستعمر، ومن يمثلونه. شهدت تلك المرحلة من حياة العاني تأسيس فرقة الفن الحديث 1952 في بغداد، التي أسسها بصحبة الفنان الراحل إبراهيم جلال، وكانت تحمل وعياً فنياً وفكرياً متقدماً، يلبي طموحات أولئك الشباب في غد أفضل، وكان لهذه الفرقة دور رائد في رسم ملامح البدايات في الحركة المسرحية العراقية، حيث قدمت عروضاً عديدة جمعت بين السخرية اللاذعة للواقع، والتراجيديا المرة، وفي أحضانها نشأ العديد من الفنانين المسرحيين العراقيين، وظل نهجها هو السائد في المسرح العراقي حتى الخمسينات، وقد كتب العاني لهذه الفرقة عدداً من المسرحيات التي استطاعت أن تشق طريقها إلى الجمهور، وتلقى الاحتفاء بسهولة، اعتمد في أغلبها الطابع الكوميدي الساخر، لكنها لم تكن السخرية المجّانية، بل تلك الموظفة بإحكام لنقد السلطة القائمة آنذاك وفضح ممارساتها، ونقد الواقع الاجتماعي المتخلف، عبر بناء مسرحي متكامل العناصر. تناولت مسرحياته في تلك الفترة قضايا تمس حياة الناس في الصميم، لذلك لقيت تجاوباً كبيراً، مما أعطى العاني وفرقته اندفاعاً نحو مزيد من العطاء، واستطاع العاني عن طريق تلك المسرحيات الاحترافية أن يتجاوز البدايات غير الناضجة التي كان المسرح في بلاده لا يزال يعيشها، وانتقل به من الهواية التي يشوبها الافتعال والعشوائية وهلهلة البناء والبحث عن المضحك بأي وسيلة إلى الاحتراف الذي يتميز بإحكام البناء وسلامة الأداء ووضوح الرؤية، وهذه إحدى أهم سمات هذا الرائد الذي لم تتوقف إنجازاته عند حد. ومن مسرحيات تلك المرحلة مسرحية رأس الشليلة التي كتبها عام1951، وكشف فيها مساوئ السلطة الإدارية القائمة آنذاك، ومعاناة أبناء الطبقات الدنيا في المجتمع من البيروقراطية، تلك السلطة التي كانت تتقاعس عن القيام بواجبها تجاه الناس، وترفض أن تلبي لهم أبسط مطالبهم، أو تؤدي لهم أبسط حقوقهم، وتطرد كل من لا يأتي ببطاقة توصية من شخصية كبيرة، وفي المسرحية تكون المفارقة بأن يعثر أحد المراجعين البسطاء، الذي قد تم رفضه بشدة وعرقلته على بطاقة توصية، فيقدمها للمدير الذي كان قد رفضه، فينقلب موقف المدير إلى الضد ويتذلل للمراجع، وينهي معاملته في لمح البصر، وقد استفاد العاني في هذه المسرحية من معين السخرية الشعبية الذي سهلته له اللغة العامية التي كتب بها نصه. على هذا الخط سار العاني عبر عدة مسرحيات متلاحقة مثل: حرمل وحبّه سوده 1952، وأكبادنا 1953، وتؤمر بيك 1953، وفلوس الدواء 1954، وستة دراهم 1954، آني أمك يا شاكر 1955، وتعتبر هذه المسرحية الأخيرة واحدة من أنضج مسرحيات العاني الواقعية، وأكثرها شعبية، وقد حاز بسببها لقب فنان الشعب، فقد انتقدت هذه المسرحية ممارسة القمع السياسي السائد إبان فترة الاستعمار، ورسمت صورة للنضال الذي يشارك فيه كل أفراد الشعب، في هذه المسرحية عمق العاني التراجيدي وذهب بالمأساة بعيداً، ليفضح القمع، ويرتقيَ بالمقاومة إلى مراتب البطولة المثالية، مع أنه لم يغفل الكوميديا، وترك لها مساحة لا بأس بها في ثنايا المسرحية، التي تصور سيرة نضال أم عراقية تقاوم هي وأبناؤها ظلم المستعمر والحكومة الموالية له. يؤخذ ابنها البكر إلى المقصلة ليقتل شهيداً، ويسجن ابنها الثاني، ثم تسجن ابنتها، وتبقى هي شامخة عزيزة متشبثة بمبادئ الحرية التي ضحت في سبيلها بأبنائها، لتكون رمزاً لنضال العراق وشعب العراق بكل أجياله وأطيافه، ولتعطي الأمل لذلك الشعب في إحدى أحلك فتراته، لأن الأم هي صانعة الحياة والحب، ورمز تجددهما. بعد هذه المرحلة وفي ظل اضطراب الحياة السياسية في العراق هاجر العاني إلى لبنان في عام 1963، وهناك بدأ يحتك بالمسرح اللبناني والعربي الذي كان قد قطع أشواطاً متقدمة، ويعيش فترات أوجه، كما بدأ قراءات معمقة عن المسرح الغربي، تقوده إلى فهم عميق للتيار الملحمي البريختي الذي يجذبه، وحين عاد إلى العراق عام 1967، كان حاملاً في جعبته مخطوطات وتصورات لعدة مسرحيات تستعير من بريخت أهم أدوات مسرحه، كعنصر التغريب الذي يقوم على إدخال لقطات ورموز سينوغرافية تكسر السياق الدرامي والبناء الشكلي للمسرحية، وتتعارض مع رموزها، وكعنصر التقطيع البنيوي للحكاية بإدخال الغناء والموسيقى والفولكلور في عدة مقاطع من الحكاية، وعدم الالتزام بالتسلسل الزمني لها، ويراد من تلك الكسور والتدخلات في سياق المسرحية إدخال عنصر غريب يلفت انتباه المشاهد، ويخرجه من عملية الاندماج في المسرحية، لكي يجد مساحة للتفكير النقدي في العرض والمساهمة في تخيل مساره. فحسب بريخت فإن الاندماج الكامل في العرض يعد أمراً سلبياً، ويجعل المشاهد والممثل أيضا سلبيين، ومرتهنين لوجهة نظر المؤلف والمخرج، وهو يريد أن يحررهما من ذلك الارتهان لكي يكونا قادرين على المساهمة في إنتاج رؤية العرض، ويرى بريخت أن هذه الفاعلية النقدية للمشاهد هي التي تصنع المواطن الصالح الواعي بواقعه القادر على انتزاع حريته، وكانت مسرحية صورة جديدة التي قدمتها فرقة المسرح الحديث في بغداد عام 1967 أول مسرحية استعار فيها العاني شيئاً من أدوات بريخت، وإن كان بشكل طفيف، لكنه سيعمق ذلك الاتجاه مع المسرحية التالية وهي مسرحية المفتاح 1968، التي برزت فيها كل عناصر المسرح البريختي. مزج العاني في أعماله الأسطورة بالشعر والحكاية الشعبية والشعر الشعبي والغناء لصناعة بنية درامية مركبة، ذات بعد رمزي قابل للتأويل في سياق الواقع العربي بعد هزيمة يونيو/حزيران 1967، فهناك زوجان عقيمان يبحثان عن دواء للعقم من أجل إنجاب طفل، ولا يجدان في الطب الحديث ما ينجدهما، فيلجآن إلى التراث والممارسة المتوارثة عن الأجداد، ويكون شرط الوصول إلى الدواء الذي يبحثان عنه هو في العثور على مفتاح مخبأ في صندوق، وفي رحلة البحث عن المفتاح يكتشفان أنهما يسيران في دوامة من الأوهام، ويدوران في حلقة مفرغة لا تقود إلى أية نتيجة، لكنّ الزوجة وفي أثناء تلك الرحلة اليائسة تكتشف بالصدفة أنها حامل، فيبزغ الأمل، ويتركان البحث ليتهيئا للقادم الجديد، وكأن الكاتب كان يقول إن طريق المستقبل هي في العمل هنا والآن، وليست في الارتماء في أحضان الماضي أو أحضان الغرب. وقد عمل العاني على تطوير اتجاهه ذلك عبر عدة مسرحيات لاحقة لاقت احتفاء نقدياً مثل (الخرابة، الشريعة، الخان)، التي توسع فيها في استخدام المسرح الملحمي، محاولاً أن يجد بناء درامياً خاصاً به هو مزيج بين الملحمي والواقعي والوثائقي. لقد كان العاني في كل مراحل مسيرته المسرحية تلك يفتتح آفاقاً جديدة للمسرح العراقي، ويبتدع أساليب لا يلبث المسرحيون أن يأخذوها عنه، ويتبنوها فيما يطرحونه من أعمال سواء على مستوى العروض أو على مستوى الكتابة، وذلك يؤكد ارتباط مسيرة المسرح العراقي في بعض جوانبها بمسيرة العاني باعتباره أحد رواد تلك المسيرة.
مشاركة :