تلتقي رواية «ستيمر بوينت» لأحمد زين بالفكرة العامة لعدد من الدراسات والروايات التي ترد بالكتابة على الاستعمار من مثل كتاب نظرية ما بعد الاستعمار ككتاب «الإمبراطورية ترد بالكتابة» لبيل أشكروفت، وجاريث جريفيثيز، وهيلين تيفن، وهو أحد الكتب الأساسية في نقد الاستعمار، واستند على نصوص سردية تحلل صور الاستعمار وأشكاله وتدين تعدياته. من ناحية سردية، تلتقي الرواية مع رواية «قلب الظلام» للبولندي جوزيف كونراد، و«موسم الهجرة إلى الشمال» للطيب صالح. رواية «ستيمر بوينت» تنتهي بنهاية معاكسة لرواية الطيب صالح، بينما يعود بطل رواية الطيب صالح إلى السودان، يرحل أحد أبطال الرواية مع التاجر الفرنسي على ظهر الباخرة، حيث تبدأ مرحلة التعرف على الذات وتجاربها الماضية على ظهر باخرة من دون حوار فعلي حقيقي بين الشخصيتين مكتفية بالمونولوج الداخلي بين التاجر الفرنسي، وسمير، مثلما هو الحوار الصامت بين كورتز ومارلو السيد والعبد، الأبيض والأسود في رواية «قلب الظلام» لكونراد. مما لا شك فيه أن «موسم الهجرة إلى الشمال»، هي رواية رد الفعل على تاريخ استعماري طويل «وبالمناسبة هي عمل سردي سابق لكثير من الكتابات النظرية المناهضة للاستعمار»، يحاول مصطفى سعيد أن ينتقم من خلال مغامراته العاطفية الجنسية مع النساء الأوربيات، وقتله لجين مورس إذ يتحول الجسد الأنثوي إلى جسد أوروبي يثأر منه مصطفى سعيد ويتحول المستعمَر «بفتح الميم» إلى مستعمِر «بكسر الميم» وهو تحول له أبعاده النفسية في تحقيق رغبة كامنة لا واعية في الانتقام من المستعمر حتى لو كان على المستوى التخييلي. بينما اكتفت كل من روايتي «قلب الظلام»، و«ستيمر بوينت» برصد صورتي المستعمر والمستعمر بكل ما تحملانه من أبعاد إنسانية وثقافية وسياسية. هذه الرؤية الكولونيالية تتضح في حديث القنصل الأميركي في الرواية، إذ يعرض الخدمات التي يقوم بها الاستعمار للشعوب المستعمرة: «إنما نهب الفرصة لإعادة صياغة العالم، وتغيير موازيين القوى». (الرواية، ص:52) المستعمَر والمستعمِر للرواية بشكل عام خطان سرديان لا نستطيع أن نقرأ الرواية من دون الوعي بدلالتهما، الخط الأول لحظة خروج التاجر الفرنسي وسمير من عدن، والخط الثاني هو خط استرجاع قصة كل منهما في عدن قبل المغادرة. فالحكاية الاسترجاعية تقوم بخدمات جليلة للقارئ حيث تجيب على حالة الانكسار وتشظي الذات الذي يشعر بها كل من سمير والتاجر على متن الباخرة. تعالج الرواية موضوعات وقضايا فكرية عدة من مثل الأنا والآخر، صورة المدينة، نقد الاستعمار من منظور ما بعد استعماري، وفي ما يلي من عرض سيكون تناول لثيمة علاقة المستعمر والمستعمر. منذ بدايات الرواية، يتضح بشكل جلي أن الرواية تركز على صورة كل من المستعمر والمستعمر، وبشكل أكثر دقة تركز على فكرة اتكاء المستعمَر، بفتح الميم، على المستعمِر، بكسر الميم، إذ يتضح على سبيل المثال في تصريح سمير المباشر لهذه العلاقة: «كلنا نريد أن نكون ذلك العدني، الذي يرضى عنه الإنكليز ويقربونه منهم، وإلا ما الذي يأتي بنا إلى هنا إلى الأحياء الجديدة ومقاهيها الحديثة. أم أننا نتشبه بهم. سنبقى أميين، والمتعلم فينا سيسلك سلوك الرعوي والهمجي، أو المنبهر في أفضل الأحوال». (الرواية، ص: 100-101) الفقرة السابقة مرتبطة بشكل كبير بما كتبه المفكر التونسي إلبرت ميمي في كتابه «المستعمر والمستعمر» مجسدا صورة وتصرفات المستعمر، ولكنه لا تفوته الفرصة في أن يرسم صورة المستعمر وعلاقته بالمستعمر التي ليست علاقة عداء دائم بل فيها نوع من التشبه بالآخر والانصهار في ثقافته، والخجل من الانتماء إلى الجذور، كما يوضح ألبرت ميمي: «كما أن العديد من الناس يتحاشون أن يظهروا أقرباءهم الفقراء، كذلك المستَعمَر المتعثر بانصهاره يخبئ ماضيه، وتراثه، وكل جذوره التي أصبحت بنظره شائنة» (الرواية، ص: 146( لقد حول الاستعمار عدن وجعلها بعين سمير وكأنما هي قطعة من الجنة:«ظهرت عدن مدينة لا مثيل لها. بدت لي، من أول وهلة، قطعة من الجنة». (الرواية، ص:14) ويعيد هذه الفكرة أيضا بصيغة التساؤل، المحمل بالكثير من الإحساس بعقدة النقص، وبشكل متناقض الخوف من الاتهام بالإحساس بالدونية، كما يتساءل سمير: «ويسأل نفسه، هل فعلا غيرها الإنجليزي؟». (الرواية، ص:29) تساؤل سمير هنا يعرض تصوره الشخصي لعلاقته بالمستعمر، ولنلاحظ أن صيغة السؤال توحي بعدم قدرة على استخدام الدلالة التقريرية الصريحة بسبب الخجل الخفي الذي تنطوي عليه العلاقة بين الدوني والفوقي. بالطبع ارتباط سمير بالثقافتين العدنية والإنجليزية يجعله يعيش في بحث دائم عن الراحة التي لم تتأت له حتى في نهاية الرواية كما يبين ميمي:«الإنسان المستند إلى ثقافتين لن يرتاح أبدا» (المستعمر والمستعمر، ص: 148). كان من الممكن أن يكون العمل الروائي مجرد عمل سردي كلاسيكي مناهض لطروحات الاستعمار بتقليدية «بشخصيتي نجيب الثوري، وسعاد المثقفة المناهضة للاستعمار والباحثة عن تألقها الشخصي»، لو لم يتقدم إلى الأمام بإحضار شخصية كل من سمير بوصفه صوتا موضوعيا من الشرق يعيش صراع الهويات في داخله، كما سبق وتحدثنا عنه، وصوتا نقديا موضوعيا آخر من الغرب يكمن في شخصية آيريس الباحثة الإنكليزية التي أتت لرصد أثر الحرب على الجنود الإنكليز، فإذا بها تتحول إلى رؤية نقدية تعارض الاستعمار من خلال نفسها أولا، ومن ثم عرض آثاره السلبية على الشعوب المستعمرة، وحياة المجتمع الانكليزي في اليمن على وجه الخصوص من مثل النساء الأوروبيات الرافضات لتعلم اللغة العربية إذ يعيشن حياة أشبه بـ«محمية داخل محمية». (الرواية، ص:134)، وهو الأمر الذي تحلله آيريس على أنه رغبة الرجل الانكليزي بالتفرد بالمشروع الامبريالي، والهيمنة السياسية، وهذه ثيمة ترتبط بشكل كبير في تحليل ممارسات الرجل الأوروبي المنطلق من رؤية مركزية ضد الثانويين المختلفين عنه من مثل الشرقيين أو حتى النساء الأوروبيات. * ناقدة وأكاديمية كويتية - أحمد زين، رواية «ستيمر بوينت»، دار التنوير، بيروت، الطبعة الأولى، 2015. - ألبرت ميمي، كتاب «صورة المستعمر والمستعمر»، تعريب: جيروم شاهين، تقديم جون بول سارتر، دار الحقيقة للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 1980.
مشاركة :