مفهوم «التعالي» بدلاً من مفهوم «الحاكمية» وطه عبدالرحمن بدلاً من سيد قطب

  • 10/18/2016
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

في سلسلة من ثلاثة مقالات نشرتها صحيفة «الحياة»، قدَّم خالد الحروب مراجعة لكتاب «الدولة المستحيلة» لوائل حلاق، سادتها نزعة ناقدة ترى في الكتاب محاولةً للتنظير لخصوصية إسلامية جوهرانية لا يمكنها التواؤم مع مؤسسة الدولة الحديثة. ومع إشادة الحروب بالقيمة العلمية للكتاب، إلا أنه رأى في رسالته الرئيسة موافقةً غير مقصودة لتنظير سيد قطب حول مفهوم الحاكمية وللدعاوى الطهرانية غير التاريخية عند الحركات الإسلامية. لا شك في أن عملاً مثل كتاب وائل حلاق جدير بقراءات متعددة من زوايا مختلفة للبناء على ما فيه من مضمون أصيل يزوِّد الباحث بمفاهيم وتفسيرات غنيّة ومثيرة للفكر، لذا يسعى هذا المقال إلى نقد النقد الذي قدَّمه الحروب في مقالاته، أملًا بإثارة المزيد من النقاش الأصيل والمبدع حول واقع ومستقبل المجتمعات المسلمة المعاصرة. يقول خالد الحروب: «حلاق ينطلق في كل ذلك من موقع المدافع والمنظِّر البارع لخصوصية إسلامية جوهرانية متميزة، تجعل المسلمين مختلفين مبدئياً وغائياً عن بقية البشر»، بينما لم يتضمن كتاب حلاق أي حديث عن هذه الجوهرانية بل انطلق من فهم تاريخي للحكم الإسلامي وقدَّم تفسيراً للمأزق التاريخي الذي تعيشه المجتمعات المسلمة. بل إن طرح الحروب هو الذي وقع في الجوهرانية حينما صوَّر الحداثة ومؤسستها المركزية (الدولة الحديثة) على أنهما الوضع الطبيعي (الجوهراني؟) للبشر وزعم أن حلاق يجعل المسلمين مختلفين عن (باقي البشر)، فتجاهل الحروب السياق التاريخي لنشأة الحداثة ومؤسساتها وجعلها حالة إنسانية عامة متعالية على التاريخ. نجد في العنوان الفرعي لكتاب وائل حلاق عبارة «الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي»، وتتمثّل الأطروحة المركزية للكتاب في بيان تمايز التجربة التاريخية للحكم في المجتمعات المسلمة ومنطلقاتها الأخلاقية عن تجربة الدولة الحديثة ومنطلقاتها المادية. ما يقدِّمه حلاق هو تحليل لمأزق الحداثة في المجتمعات المسلمة وتفسير لهذا المأزق من خلال التغير المؤسسي الذي طرأ مع ظهور مؤسسة الدولة الحديثة في هذه المجتمعات، وهي المؤسسة المبنية على منطلقات معيارية مخالفة للمنطلقات المعيارية الأخلاقية الإسلامية، كما قدَّم تحليلاً للمأزق الأخلاقي للحداثة في شكل عام وناقش حاجة المجتمع الإنساني إلى بدائل أخلاقية قد يساهم فيها مفهوم الحكم الإسلامي. إن ما قدّمه وائل حلاق هو تحليل لتجربة الحكم الإسلامي (التاريخية) بربطها بمنطلقاتها الأخلاقية الثابتة، فالجوهرانية التي عابها الحروب على الكتاب، إنما هي في المنطلقات الأخلاقية الإسلامية لا في التجربة التاريخية، وهل يكون الدين ديناً إن لم يكن ثابتاً؟! في نقاشه المنطلقات المثالية للحكم الإسلامي التي عبّر عنها حلاق، أبرز خالد الحروب – محِقًّا - مشكلة الخلط بين القراءة المثالية لما يريده الإسلام وبين واقع التطبيق التاريخي لهذه المنطلقات، إلا أن هذا لا يقلِّل من أهمية المنطلقات المثالية الإسلامية الأخلاقية المتعالية عن التطبيقات المشخَّصة، لتكون هذه المنطلقات أساساً لنقد التطبيقات المشخَّصة في التاريخ الإسلامي، كما لنقد التطبيقات الحداثية. وهنا يحسُن استحضار مفهوم «التعالي» الذي قدّمه طه عبدالرحمن في كتابه «روح الحداثة» لبيان قصور مشروع الحداثة الغربي بسبب فقدانه هذا البعد الذي يحرِّك الفرد والمجتمع نحو مزيد من التقدُّم الأخلاقي، بينما انتكس مشروع الحداثة – برأي عبدالرحمن - بسبب فقدانه هذا البعد. لذا فإن المثالية الأخلاقية في الحكم الإسلامي التي أصّل لها وائل حلاق مفيدة في إدخال بُعد التعالي في التجارب الإنسانية، مع وجوب الحذر من المماهاة بين مثالية هذا البعد وواقع التجارب المشخَّصة، فكما يوضِّح طه عبدالرحمن؛ يمثِّل التعالي الروحي أفقاً دائماً للترقّي الأخلاقي لا ينفد ولا يُختزَل في أي تطبيق مشخَّص لأنه مبني على العبودية للإله الواسع اللامتناهي الذي لا يُدرَك. يمكن فهم المنطلقات الأخلاقية المثالية التي تحدَّث عنها وائل حلاق بالنظر إليها كأفق للترقي الأخلاقي لا كمنطلقات جامدة محصورة في تطبيق مشخَّص بعينه. يعيب خالد الحروب على كتاب «الدولة المستحيلة» رفضه المجاملات ومحاولات التلفيق التي تسعى إلى التوفيق بين الإسلام والحداثة، ويتساءل إن كانت مثالياته تتطابق مع طروحات سيد قطب حول الحاكمية «وما أسسته من إسلاموية حركية شوهت الفضاء العربي والإسلامي برمته؟»، وفي هذا التساؤل اختزال مُخِل. فالتشوُّه في المجتمعات المسلمة لا ينحصر في أثر الإسلاموية الحركية. قد تكون هذه الحركات – خصوصًا المتطرفة منها- هي التعبير الصارخ عن هذا التشوُّه. إلا أن التشوُّه ناتج من أزمة الدولة الحديثة في المجتمعات المسلمة، ومن أوضح مظاهره الاستبداد. ومن مظاهر هذا التشوُّه أيضاً، تحويل الحداثة نفسها إلى فكرانية (أيديولوجية) سلطوية أو تبشيرية منفصلة عن القيم الأخلاقية لهذه المجتمعات، وزعزعة هذه القيم الأخلاقية دون القدرة على تأسيس بديل لها. أما المجاملات التي انتقدها حلاق - ويدافع الحروب عن بعضها- والبادية في تنظيرات الحركيين الإسلاميين (المعتدلين؟) والساعية إلى تبني مقولات وبنى الحداثة دون منطلقاتها المعيارية فهي من مظاهر هذا التشوُّه، الذي أدى إلى فشل مشروع التحديث وفقدان المجتمعات المسلمة منظومتها الأخلاقية دون نجاحها في بناء منظومة جديدة. والحداثة الغربية تعاني اليوم من مأزق أخلاقي، لذا تأتي أطروحة حلاق لتؤكد للمسلمين امتلاكهم بديلاً أخلاقياً أقوى من المشروع الحداثي قد يشكل بديلًا لهم وربما يساهم في تقديم بديل للعالم إن أفلحوا في ترجمته إلى مؤسسات فاعلة كما فعلوا في تجربتهم التاريخية. ويستمر خالد الحروب في قراءته الاختزالية التحكُّمية للكتاب فيقول: «حلاق لا يبتعد كثيراً عن تصور «الحاكمية» القطبي، إذ يرى أن أصل الحكم الإسلامي هو التسليم المطلق للشريعة المُتعالية المُصمتة». وتعبير «المصمتة» هذا من عند الحروب ولم يرد عند حلاق، بل ما ورد عند حلاق هو تأكيد مرونة الشريعة من خلال تفاعل المسؤولين عن تحديد أحكام الشريعة وتنفيذها (أي الفقهاء والقضاة) مع المجتمع، وكونهم جزءاً منه لا من السلطة، أما تعبير «المتعالية» فهو جوهر الإيمان عند المسلمين بأن مصدر شريعتهم متعالٍ، وما الذي سيبقى من الدين إن فقد هذا التعالي؟! تبقى المشكلة المستمرة عند المسلمين في تعميم هذا التعالي على الأفهام المحددة المشخصة للشريعة وهو أصل كل تطرف وجمود، وهو تحدٍّ على المسلمين مواجهته. ردّد خالد الحروب في مقالاته بعض التعميمات التبسيطية السائدة حول التاريخ الإسلامي، كزعمه أن الحكام والخلفاء المسلمين سيطروا «على التيار الأعرض من المفسرين والقضاة والعلماء والفقهاء ودفعوهم لتبني وترويج تفسيرات محددة ومدارس فقهية معينة وفق السياق والزمن والظروف السياسية، أسها تبرير الشرعية الدينية للحكام، ووجوب طاعة الناس لهم من منطلق ديني»، وهي دعوى بلا دليل، تعمِّم حكماً قيميّاً سلبياً على الممارسة الفقهية الإسلامية عبر التاريخ، وتفتقر إلى القراءة الموضوعية للتاريخ الإسلامي، بإسقاطها تصوراً حديثاً للسلطة يفترض علاقة استتباع بين مؤسسة الدولة والمؤسسات الأخرى في المجتمع، وهو ما فنّده حلاق وبيّن – محقًّا - أن التجربة التاريخية الإسلامية كانت متميزة في نموذج الحكم المؤسسي القائم على توازن بين سلطة الدولة وسلطة الفقهاء والقضاة لا استتباع الأولى للثانية كما يزعم الحروب. ومن المفارقات أن هذه التعميمات نجدها تتكرر عند بعض الحداثيين الرافضين النظر إلى التجربة الإسلامية التاريخية بعين الاستفادة، كما عند بعض الحركيين الإسلاميين الذين يزعمون قيامهم بتجديد الفقه الإسلامي القديم الذي لا يصلح للعصر. والفرق بيِّنٌ بين طروحات سيد قطب المعيارية الفكرانية المنشغلة بتوصيف ما يجب أن يكون، وبين طرح حلاق الموضوعي التاريخي الذي يحاول تفسير أزمة المجتمعات المسلمة مع الحداثة، ولا يخلو من إشارات إلى استنتاجات معيارية تتعلق بأزمة الحداثة نفسها دون ادِّعاء تقديم وصفة جاهزة مثالية مطلقة. وجوهر الخلاف وسوء الفهم في النقاش حول دور الدين في الشأن العام عند المسلمين هو في نسبة التعالي؛ بين أن يُنسَب إلى دين الله الثابت المطلق حيث يوفِّر هذا التعالي أفقاً مستمراً للترقي الأخلاقي، أو أن يُنسَب إلى أُطُر محددة سواء كانت مؤسسات الحداثة – كما عند المبشرين بالحداثة - أو مؤسسات تطبيق مشخَّص للقيم الإسلامية – كما عند الحركيين الإسلاميين - فتؤدي هذه النسبة إلى الجمود والتطرُّف والتشوُّه لفقدان أفق الترقي الأخلاقي، ما دام هذا الأفق قد تم حصره في تطبيق محدد. إن استدعاء طه عبدالرحمن بدلاً من سيد قطب أنفع وأجدى في قراءة عمل وائل حلاق المهم. فأطروحة كتاب «الدولة المستحيلة» تنقض أسس التنظيرات الفكرانية التلفيقية للحركيين الإسلاميين، كما تنقض ادّعاءات الإطلاق (الجوهرانية) لقيم ومؤسسات الحداثة. لذا فهي تشكل مادة تاريخية مهمة تكمِّل التنظير الفلسفي المبدع الذي قدّمه طه عبدالرحمن خصوصاً في كتابيه «روح الحداثة» و «روح الدين»، حيث قدّم نقداً لمفهوم «السيادة» في الدولة الحديثة من خلال المقابلة بين ممارسة «التعبُّد» وممارسة «التسيُّد» في تدبير الشأن العام، كما وسّع مفهوم «الحاكمية» السائد عند الإسلاميين بفهم ضيِّق يقودهم إلى آفات «التسيُّد» نفسها المشاهدة عند غيرهم، حيث جعل هذا المفهوم جزءاً من مفهوم الائتمانية الأوسع المرتبط بممارسة «التعبُّد». يركِّز الحروب في دفاعه عن مشروع الحداثة على الطبيعة النقدية المستمرة للحداثة، وقدرتها على النقد بل والتفكيك، بينما نجد عند طه عبدالرحمن نقداً للتوجه العقلاني المجرد للحداثة وللتوجه التفكيكي لما بعد الحداثة، لافتقادهما بعد التعالي، الذي يفتح آفاق التطوُّر الأخلاقي، فتكون نتيجة الانحصار في العقلانية المجردة النكوص إلى التفكيك الهدّام، بينما يتميّز النقد المستند إلى أفق أخلاقي متعالٍ بأنه دائم التجدد والترقي. وصف خالد الحروب كتاب «الدولة المستحيلة» بأنه من الكتب القليلة المستفزة للقراءة ولكتابة مراجعة حولها، وكذلك كانت مراجعة الحروب لهذا الكتاب. فمع الاختلاف مع التوجه العام لهذه المراجعة، إلا أنها تثير التفكير وتحفِّز النقد وتساهم في مزيد من النقاش الجاد حول واقع المجتمعات المسلمة التي تعاني منذ ما يزيد عن قرن من تيه في وجهتها وتشوُّه في قيمها ومؤسساتها. * «سيد قطب» متخفياً في كتاب «استحالة الدولة الإسلامية» (١ من ٣)

مشاركة :