«طبيعة صامتة» لنويل كوارد: يوم تحوّلت الضواحي موضوعاً للإبداع

  • 10/19/2016
  • 00:00
  • 39
  • 0
  • 0
news-picture

يعتبر فيلم «لقاء عابر» للمخرج البريطاني دافيد لين واحداً من أكثر الأفلام رومانسيةً في تاريخ السينما الإنكليزية. وهو عادة ما يذكر في تاريخ لين للإشارة إلى الجذور الرومانسية الحميمة لسينماه التي تحولت في النصف الثاني من حياة هذا المبدع الكبير إلى سينما للإنتاجات الضخمة - مثل «لورانس العرب» و «الدكتور جيفاغو»...-، والتي، مع هذا، لا تخلو من رومانسية تجد جذورها في «لقاء عابر». غير أن المسألة التي يجب ألا تسهو عن البال لدى الحديث عن هذا الفيلم الأخير، هو أنه ليس فيلم مخرجه بقدر ما هو فيلم كاتبه، مع أن هذا غالباً ما يُنسى لدى الحديث عن الفيلم. ومع هذا ليس الكاتب ممن يمكن نسيانهم بسهولة. فهو ليس سوى الممثل والمبدع المسرحي الكبير نويل كوارد. غير أن كوارد لم يكتب النص كفيلم بل كتبه في الأصل كمسرحية قصيرة حملت عنوان «طبيعة صامتة» وجاءت ضمن إطار عشر مسرحيات قصار قدّمها كوارد من إخراجه وتمثيله في ثلاث سهرات متتالية في سنوات الثلاثين. يومها على رغم الاستقبال «البارد» الذي كان من نصيب «طبيعة صامتة»، لم تمر فترة إلا ونالت المسرحية قدراً متأخراً من الاستحسان إلى درجة أن حوّلها لين فيلماً قبل أن تتحول لاحقاً إلى أوبرا وأفلام عدة أخرى، بل حتى إلى جزء من الثقافة الشعبية الإنكليزية... > ومع هذا قد يكون من الصعب العثور في هذا النص الهادئ والبسيط على العناصر التي جذبت الجمهور إليه كما جذبت المبدعين الآخرين، علماً بأن الاقتباس السينمائي أتى أكثر ثراء من الأصل المسرحي. فعمّ تتحدث المسرحية... والفيلم المقتبس عنها بالتالي؟ ببساطة عن حكاية غرام تدوم خلال ثلاثة أو أربعة فصول من السنة ميدانها محطة قطار في ضاحية إنكليزية عمالية. ففي تلك المحطة يحدث أن تلتقي ربة بيت هادئة تبدو سعيدة وعادية في حياتها العائلية بطبيب من طريق الصدفة. لن تعرف أول الأمر أنها منجذبة إليه ولن يعرف هو أنه بدوره منجذب إليها حتى يكون الفصل التالي حين يلتقيان من جديد في المحطة ولا يجدان مغبة في تناول الغداء معاً ثم في مشاهدة فيلم سينمائي... بعد ذلك يكتشفان وقوعهما في الحب ويبدأ كلّ منهما بمقاومة ذلك الشعور العاصف الذي يجتاحهما. فهي بعد كل شيء تحب زوجها حتى وإن كان يهملها عاطفياً بعض الشيء، وهو - أي العشيق - رجل مستقيم لا يجد أن من المنطقي تدمير حياة من يحبها. وفي النهاية يقرران الانفصال وتتجه هي لوداع أخير في المحطة يريدان فيه أن يفرغا عاطفياً شحنة غرامهما في قبلة أخيرة... لكن تلك القبلة لن تحدث من جراء مرور بعض معارفهما في تلك اللحظة نفسها، فيكتفيان بمصافحة بالأيدي، فيما يراقبهما عاشقان آخران من موظفي المحطة يعيشان غرامهما بهدوء ومن دون مشقة. > ذلكم هو بكل بساطة موضوع هذه المسرحية التي خرج فيها نويل كوارد لمرة نادرة في كتابته عن أسلوبه الهزلي الاجتماعي الناقد ليتوقف عند حكاية حب مستحيل ينتهي على تلك الشاكلة المحزنة إنما المنطقية. وكان من الواضح أن عنصر الجذب القوي في هذا العمل إنما كان الخلفية الاجتماعية التي صوّرت من خلال ذينك العاشقين، حياة الضواحي حين لم تكن هذه قد بدأت تشكل إطاراً لأي أدب أو فن، ناهيك بأن المسرحية حققت أعلى درجات نجاحها في مناخ الحرب العالمية الثانية يوم كانت المرأة الإنكليزية قد بدأت تعيش قدراً زائداً من الحرية. > وكان هذا كله جديداً حتى على نويل كوارد، الذي رحل عن عالمنا في العام 1973، والذي كان من ظرفاء لندن البعيدين عن كل رومانسية، بل كان من الفنانين الذين لا تكف الصحافة عن رواية الطرائف التي تتعلق بهم. ولعل واحدة من أشهر الطرائف المروية عن كوارد أنه، إذ كان صديقاً حميماً للكاتب جورج برنارد شو، غاب عن ناظري هذا الأخير فترة من الزمن. وفي كل مرة كان شو يسأل فيها كوارد أين كان حين اتصل به، يقول له هذا الأخير «كنت أتناول الغداء مع برنس أوف ويلز» أو «العشاء مع البرنس أوف ويلز» أو «كنت في افتتاح معرض مع البرنس أوف ويلز». وإذ أعيا الأمر شو في النهاية، بعث إلى صديقه رسالة قال له فيها: «حتى لو تقاسمت سريراً واحداً مع البرنس أوف ويلز، فإنك أبداً لن تصبح ملكة لبريطانيا». ومهما يكن في أمر فإن نويل كوارد الذي كان يعتبر من كبار الساخرين، ظل حتى أيامه الأخيرة يحكي كيف أنه وقع - بدوره - ضحية لسخرية جورج برنارد شو منه. > خلال النصف الأول من القرن العشرين كان نويل كوارد الأكثر شهرة بين كتاب المسرح الإنكليزي وممثليه، واشتهرت أعماله بسخريتها اللاذعة من الحذلقة الاجتماعية البريطانية، كما اشتهرت له أعمال موسيقية ألفها، غير أنه لم يكن كموسيقي على قوته ككاتب مسرحي. > بدأ كوارد حياته الفنية وهو في الثانية عشرة من عمره، حيث صار ممثلاً محترفاً، وكان ذلك في العام 1911، وهو بدأ كتابة المسرحيات وكان بعد في السادسة عشرة، غير أن مسرحياته الأولى لم تؤخذ مأخذ الجدية، حتى العام 1920 حين كتب مسرحية لفتت إليه الأنظار بعض الشيء بعنوان «سوف أترك الأمر لك». بيد أن شهرته الحقيقية ككاتب لم تبدأ إلا في العام 1924 حين كتب وهو في الخامسة والعشرين من عمره مسرحية «فورتكس» التي عرضتها إحدى الفرق اللندنية وحققت نجاحاً كبيراً. وفي العام التالي قّيّض لمسرحية أخرى له هي «مرحى أيتها الحمى!» أن تعرض في نيويورك ثم في لندن، ما جعل شهرته تتحول إلى شهرة عالمية. ولسوف تكون هذه المسرحية الأولى بين مسرحيات هزلية ساخرة عدة كتبها طوال حياته، كان من أبرزها في نهاية سنوات العشرين المسرحية الموسيقية «الحلو الأمرّ» التي حظيت بإقبال جماهيري واسع. > مذ تلك الفترة لم يعد نويل كوارد بحاجة لأن يعرّف نفسه، ككاتب أولاً وكممثل بعد ذلك وكموسيقي في المكانة الثالثة. صار علماً من أعلام المسرح البريطاني. وصار في إمكانه أن ينتقل بالكتابة إلى مجال آخر، فمن ناحية نراه يخفف من الطابع الهزلي والشعبي لمسرحياته، ومن الناحية الثانية نراه يقدم على كتابة القصة القصيرة وغيرها من فنون الأدب. وكان كل ما يفعله في تلك الآونة مقبولاً. وهكذا مثلاً نراه يكتب عملاً جريئاً بعنوان «شلال» يتابع فيه مسار عائلة بريطانية بدءاً من حرب البوير (في جنوب أفريقيا) حتى نهاية الحرب العالمية الأولى. وكذلك كتب مجموعة مسرحيات الفصل الواحد، ثنائية البطولة، كان يقدمها شراكة مع الممثلة جرترود لورانس، بعنوان عام هو «الليلة عند الثامنة والنصف» (1936). ولم يفت نويل كوارد أن يتوجه بعنايته إلى الفن السابع الذي كان ذا سمات فنية رفيعة المستوى في بريطانيا في تلك الحقبة، - إلى جانب قصة وسيناريو فيلم «لقاء عابر» (1964) الذي اقتبس من مسرحيته «طبيعة صامتة» كما أشرنا ويعتبر إلى اليوم، واحداً من أجمل كلاسيكيات السينما العاطفية الأنغلوساكسونية -، حيث أن عدداً من مسرحياته وكوميدياته الموسيقية حُوّل إلى أفلام سينمائية ناجحة، لعب هو أدواراً أساسية في عدد كبير منها، ومن بينها «روح بلايت» التي حولت إلى فيلم بنفس العنوان في العام 1945، ثم إلى فيلم موسيقي بعنوان «معنويات عالية» في العام 1964. > طوال العقود الثلاثة الأخيرة من حياته لم يتوقف نويل كوارد عن الكتابة، ونشر العديد من مجموعات القصص القصيرة، كما نشر سيرة حياته في ثلاثة أجزاء بين العام 1937 والعام 1973، وكان عند رحيله في العام 1973 عازماً على استكمال الجزء الثالث لكنه لم يفعل. وفي العام 1970 منحت ملكة إنكلترا نويل كوارد لقب «سير»، في الوقت الذي كان يمضي جل وقته بين جزر بحر الكاريبي وسويسرا. وهو حين رحل، كان يعيش في جزيرة جامايكا. وكان مناوئوه يأخذون عليه كونه خلال الفترة الأخيرة من حياته صار جزءاً من المجتمع المخملي الذي أمضى حياته كلها ينتقده في كتاباته.

مشاركة :