النسخة: الورقية - دولي من النادر أن يُعلن سياسي عربي قرار حل تياره السياسي، إلا اذا كان الحل سعياً إلى استئناف السياسة من مكان آخر. ولا يبدو أن خطوة مقتدى الصدر حل التيار الصدري خطوة باتجاه استئناف السياسة. خطوة السيد أقرب الى إعلان الانتحار. فقد ترك الرجل تياراً هائل الانتشار وشبكة مصالح عضوية ومعقدة وتنظيماً ومراكز ونواباً ووزراء ورجال دين ودنيا، تركهم يترنّحون بفعل قراره. لواحدنا مثلاً أن يتخيل رجلاً أو موظفاً في مكتب «الحوزة الناطقة» في مدينة الصدر في بغداد وقد استيقظ صباحاً ليجد أن سيده مقتدى قرر حل التيار، وتفكيك كل هيئاته! فماذا سيحل بالرجل؟ نحن هنا لسنا أمام مشهد منبثق من فعل سياسي. المسرح أقدر على تجسيد المشهد من السياسة. الانتحار هنا في الحالة الصدرية ليس فعلاً عدمياً، انه امتداد للتراجيديا الصدرية. السياسة وقد استحالت فعلاً تراجيدياً مديداً، بحيث تنتحر في ذروة صعودها. أليس هذا مآل الصدريين منذ نحو نصف قرن؟ ففي ذروة صعود حزب الدعوة في العراق تم إعدام زعيمه محمد باقر الصدر وشقيقته بنت الهدى. وفي ذروة زعامة والد مقتدى السيد محمد صادق الصدر اغتيل الرجل مع نجليه في النجف. وفي ذروة الزعامة نفسها كان مصير السيد موسى الصدر الإخفاء الأبدي. وها هو مقتدى يواصل التراجيديا فيخطو نحوها عبر إعلانه إطفاء التيار الشيعي الأوسع في العراق. والحال أن الوقائع الدموية الصدرية تنطوي أيضاً على نوع من الأقدار الاختيارية. فلطالما مثلت الصدرية نوعاً من الزعامة الدينية التي تشب عن السلطة بعد أن تُغريها ثم لا تلبث أن تهددها. حزب الدعوة مثّل في الستينات نوعاً من التحدي «المحمود» للحزب الشيوعي العراقي في جنوب العراق ووسطه، ولم يَلح للسلطة في حينه أنه خطر داهم، الى أن استقر «البعث» في حكمه، ووجد صدام ضرورة اجتثاث حزب الدعوة من جذوره، فأعدم محمد باقر الصدر وشقيقته. تكرر الأمر ذاته مع محمد صادق الصدر. فالرجل كان المنافس المُشتهى لحوزة النجف، وهذا الأمر لم يُزعج النظام، لا بل إن الأخير اعتبر الحوزة الصدرية بديلاً للنجف التي لطالما ارتاب منها. لكن زعامة الصدر عمّت واتسعت فكان لا بد من قتل رأسها. إخفاء السيد موسى الصدر تم في سياق مشابه. فالسيد كان ممثلاً لباكورة الصعود الشيعي في لبنان، وفي الوقت الذي تولت فيه حركة «فتح» (وكانت سلطة في لبنان آنذاك) تنشئة تنظيمه الجديد، أي حركة «أمل»، اختفى الإمام في ليبيا التي لم تكن تبعد كثيراً عن منطقة المصالح المتبادلة التي أنشأها ياسر عرفات. حال مقتدى الصدر اليوم يشبه كثيراً المآلات الصدرية كلها. ففي الوقت الذي تولت طهران تغذية الصدرية في العراق بصفتها مساحة استثمار أمني وسياسي ومذهبي، راحت تشعر بصعوبة تطويعها بالكامل. أرادت طهران من مقتدى أن يكون «رمحاً» في يد قاسم سليماني، وأن يتحالف مع نوري المالكي، وألا يُهدد وحدة الائتلاف الشيعي. فكان الرجل جندياً مشاغباً ومتذمراً دائماً. أطلق مواقف ضد المالكي، ودعا الى التقارب مع السنّة، ولمّح الى رغبة في الانشقاق عن الائتلاف. استُدعي عشرات المرات الى طهران، وأقام فيها سنوات طوالاً، وقبل نحو سنة أُبعد عنها الى بيروت التي أقام فيها أشهراً تحت أنظار الإيرانيين، ثم عاد الى بغداد وأعلن حل تياره. والإعلان عن حل التيار جاء في وقت اقتربت فيه استحقاقات كثيرة، أبرزها الانتخابات، ومن المرجح أن تكون طهران مارست ضغوطاً هائلة على القوى الشيعية العراقية لكي تنضوي في لوائح المالكي الانتخابية. وفي هذه اللحظة قرر مقتدى حل التيار في خطوة عديمة المضمون السياسي، لكنها كثيفة المعاني على كل الصعد الأخرى. فمشهد المسرح الصدري لحظة إعلان السيد قراره، ينتمي الى النسق التراجيدي الذي كابدته العائلة منذ تصدّرها الزعامة الدينية في العراق ولبنان. والعائلة هنا ركن المأساة، ذاك أن الرجل امتداد لشيء فيها، وليس امتداداً لسيرته ولنفسه. وليس غريباً أن يقول مقتدى بعد قراره، إنه احتسب مصلحة التيار والعائلة وأخذ القرار. والعائلة في التراجيديا الصدرية، ليست تلك التي تحكم والتي تتمتع بالسلطة، بل على العكس. فهي العائلة التي تتكثف فيها المأساة، فتنضح وجوه أفرادها بملامح تراجيدية غيبية شديدة الاتصال بوظيفة الغياب الإمامية لدى الجعفريين. تنتمي خطوة مقتدى حل التيار الصدري الى ضرب من التشيّع الانكفائي النخبوي، على الضد تماماً من ضروب التشيّع الجديد الذي يعم الشيعة في ايران والعراق ولبنان. لحظة استدعاء للزهد في زمن تحول فيه زعماء الشيعة في العراق الى سلطة عارية من أي مضمون. سلطة تخوّل ابن وزير النقل هادي العامري، زعيم منظمة «بدر» القريبة من «الحرس الثوري» الإيراني، أن يأمر بعدم استقبال طائرة في مطار بغداد بعد أن أقلعت من دون أن تقلّه. مقتدى يُدرك أن الزعامة الصدرية مهددة بـ «مُتع الدنيا»، وهو لمس أن تياره سائر نحوها. لكن «الصدرية» لا تُخاطَب بهذه «المتع»، ليس لأنها منزّهة عنها، بل لأن الصدرية ضائقة غيبية لطالما أمتعتها المأساة. وهنا لا نعني المازوشية الجماعية، بمقدار ما نعني أن السياسة مدفوعة بقوة المأساة، وأن الدنيا والمستقبل لا يستقيمان من دونها. لقد عاد السيد الى بغداد، وأقام أشهراً متأملاً في أحوال تياره وشيعته. رأى أن الدنيا أقوى منه، وأن متعها لا تُقاوم. قرر أن ذلك لا يليق بالعائلة وبه، ففكر في استئناف ما بدأه آباؤه وأعمامه وأعلن حل التيار، فسقطت العامة في حيرة أين منها حيرتها التي أعقبت خذلانها الجد الأول للسيد مقتدى.
مشاركة :